إذا كانت أبجديات السياسة والوقائع والحيثيات تؤكد أن تقسيم الوطن العربي في عام 1916 بموجب اتفاقية «سايكس بيكو»، كان بمثابة عملية كسر عظم للوجود القومي العربي، فإن عملية كسر جماجم هذا الوجود ستبدأ من السودان الذي بات أمراً مسلَّما به وبحكم المؤكد انفصال جنوبه عن شماله عبر استفتاء «قسري» من المرتقب إجراؤه بعد أيام ليلد دولة «لقيطة» تمخضت عن مؤامرة قادتها إسرائيل ومن وراءها. فواضح لكل ذي بصر وبصيرة أن إسرائيل عملت منذ فترة طويلة على استمالة زعماء التمرد في الجنوب ودعمهم وتسليحهم، وهو ما أكده علنا وزير الأمن الإسرائيلي آفي ديختر في أيلول عام 2008 بقوله: «إن جميع رؤساء الحكومات في إسرائيل من بن غوريون، وليفي أشكول، وغولدا مائير، وإسحاق رابين، ومناحم بيغين، ثم شامير، وشارون، وأولمرت، تبنوا خطاً استراتيجياً في التعاطي مع السودان يرتكز على تفجير بؤرة أزمات مزمنة ومستعصية في الجنوب وفي أعقاب ذلك في دارفور».واستمرار إسرائيل في متابعة مخططها ما كان لو أنها لم تجد من يتناغم مع ما ترمي إليه من الجنوبيين، وإلا فماذا تعني تصريحات رئيس حكومة جنوب السودان سلفاكير ميارديت التي أكد فيها أنه على استعداد لفتح سفارة إسرائيلية في جوبا؟ إنها مكافأة لها وتشجيع للمضي في ما هي عازمة عليه. من ثم فإنه غير خاف على أحد إصرار الإدارة الأميركية على إجراء استفتاء الانفصال، الأمر ظهر بوعود نائب الرئيس جو بايدن الطنانة التي وعد فيها الخرطوم برفع العقوبات عنها وتقديم مساعدات مقابل تسهيل إجراء الاستفتاء، وقبله التحذير الخارج عن اللباقة والكياسة لوزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون لحكومة السودان من عرقلة الانفصال، وتنبؤها بأن الانفصال سيكون النتيجة الحتمية للاستفتاء. بديهي أن تل أبيب وواشنطن ترميان من وراء هذه المؤامرة إلى إقامة تحالف إفريقي إسرائيلي تحت رعاية أميركية، يضم الوليد الجديد وإثيوبيا وأوغندا وغيرها لابتزاز مصر وما سيتبقى من السودان، باعتبار أن هذا الأمر من أهم الأهداف الصهيونية المعلنة منذ عقود والتي تتمثل فيما يسمى ب«نظرية شد الأطراف»، أي استقطاب الدول غير العربية المحيطة أو المجاورة للأقطار العربية من قبل إسرائيل وإقامة تعاون إستراتيجي معها من أجل تركيع العرب كليا وحسم ما تبقى من الصراع العربي الإسرائيلي. ووسط تعتيم إعلامي على ما يحدث يبدو أن ما يدعو للاستغراب أن العرب حالهم حال النعامة التي عندما تمطر السماء تخفي رأسها اعتقاداً منها أن المطر لن يصيبها رغم أن تقسيم السودان ليس بأقل من حرب معلنة على الأمة، وهي خطوة أولى في مخطط تقسيم لكل الأقطار العربية.