أول ما يؤخذ على حكم الجلد والإعدام الذي أنزلته المحكمة على "مريم" في قضية الردّة، أن الحكم صدر في محكمة وقُدمت بينات الإتهام التي تؤيده في مؤتمر صحفي، فقد صدر الحكم دون أن يُقدم أمام المحكمة أي دليل بإثبات الركن الأساسي الذي تُبنى عليه جريمة الردّة التي نصّ عليها القانون، وهو أن يكون المرتد قد دخل الإسلام قبل خروجه منه، فقد صدر الحكم تأسيساً على إفتراض أن المتهمة مسلمة ما دامت تنتمي لأسرة مسلمين، وفي هذا خطأ في تطبيق القانون، فالمسئولية الجنائية لا تُبنى على الإستنتاج والإفتراض، فلا بد من إثبات الركن المادي للجريمة بالبينة وفوق مرحلة الشك المعقول، وإذا صحّ القول بغير ذلك، لما قبِل عقل أن تكون المرأة التي قالت بأنها والدة المتهمة هي بالفعل كذلك، فليس هناك أم تسعى من نفسها لأن ترسل فلذة كبدها إلى المشنقة. نقطة الضعف في هذه القضية - من حيث القانون لا الشرع - أن بينة الإتهام (كون المتهمة كانت مسلمة قبل ردتها) قد قُدمت في قاعة مؤتمرات وبرامج الحوار بالتلفزيون ولم تُقدم أمام المحكمة، فالشخص المعني بظهور الحقيقة وإثبات براءته (مريم) هو الطرف الوحيد الذي لم تُتاح له فرصة مناقشة شهادتهم ضدها على الهواء، والذين ينقلون عنها ما قالته وما لم تقله بالتسامع، ودون أن تُمنح فرصة مناقشة هؤلاء الشهود في أقوالهم لتقوم بتفنيدها ودحضها (إتصلت ببرنامج حوار تلفزيوني إمرأة قالت أنها بحكم عملها كمشرفة في السجن أن المتهمة كانت تُقيم الليل في الصلاة وأنها سمعتها تقرأ " وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ" وهي تتوجه من السجن لقاعة المحكمة) وفي هذا تأثير بليغ على سير العدالة، وهو التأثير الذي يمنعه القانون، إذ أن ذلك يؤدي إلى تكوين عقيدة لدى العامة بما يمكن أن يؤثر على الحكم الذي يمكن أن يصدر بالمخالفة في المراحل التالية للقضية، فقديماً قيل بأن "كثيراً من القضاة ظلموا لكي لا يُقال أنهم لم يعدلوا"، ويستعجب المرء كيف يسمح القضاء والنائب العام بمثل هذا التأثير في الوقت الذي تمنع فيه النيابة النشر والتعليق على قضية وكيل النائب العام (عصام الدين عبدالقادر) وهي قضية تتصل بشأن أفعاله كموظف عام دون أن تُفتح له قضية من الأساس حتى يُقال أن هناك تأثيراً على سير العدالة يستوجب منع النشر. وبالعودة لأصل الموضوع، فالواقع أنه ليس هناك شخص قام بإختيار دينه، ولو أن القاضي المتنطّع الذي أصدر حكم الردّة كان قد وُلِد في تل أبيب لكان اليوم بقلنسوة على رأسه، والصحيح أن الذين إختاروا دينهم - سواء للحق أو للباطل - هم الذين بدلوه حينما كبروا وشبّوا عن الطوق، فالمرء يخرج على وجه هذه الدنيا على دين حاضِنه، وفي هذا ترجمة لما ذكره رسولنا الكريم في حديثه الشريف الذي يقول" مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاء"، وأكثر عقيدة تستفيد من تبديل الناس لدينها هي عقيدة الإسلام، ففي كل يوم يدخل في رحابه مئات الذين يهتدون إليه بالحق، وذلك بفضل حرية العقيدة التي أتاحت للمسلمين أن يُقيموا المساجد ومراكز الدعوة التي تنتشر في معظم دول العالم (في أمريكا وحدها يوجد "802" مركز إسلامي). كما أنه ليس من ضمن واجبات الدولة أن تضمن لرعاياها مقاعد في الجنة حتى تُسائلهم في دينهم، ففي ذلك اليوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه، وتُسأل فيه كل نفس بما كسبت، فمسئولية الدولة هي أن تقوم بتوفير الخبز والتعليم والصحة والأمن ..الخ، ولا تتدخل في سلوك الفرد أو معتقداته ما دامت لا تضر و تُؤثر في المصلحة العامة (في هذه القضية كأن يقوم "المرتد" بتبشير غيره بالخروج عن الدين)، فليس هناك ما يُضير الوطن أو الإسلام بخروج هذه المرأة من كنفه !! فهذا ضرر "لازم"، يجازي عنه الله صاحبه يوم الحساب ولا شأن بالدولة به إلاّ إذا أصبح الضرر "متعدي" بحسب ما جرى توضيحه. كل الظروف التي صاحبت هذه القضية تشير إلى أنها قضية "فسخ زواج" قُدمت أمام القاضي الخطأ، فالثابت أن الفتاة المحكومة قد هربت من أهلها وتزوجت دون علمهم وموافقتهم، وقد أغضب هذا التصرف أهلها، وفي ذلك تفسير للكيد والغضب الذي ظهر في حديث أخيها في مداخلاته التلفزيونية، وفي تقديري أن علاج هذا الموضوع كان يحتاج لدرجة من الحكمة والتريّث لبحث ومعالجته أمام أي جهة بعيداً عن هذا القاضي بمحكمة الحاج يوسف. ما كان للهيئة القضائية أن تُقحم نفسها في موضوع لا زال قيد النظر، ومن نصح رئيس القضاء بإصدار بيان صحفي حول أراد أن ينتقم منه ويكشف الحال الذي إنتهى إليه القضاء، فهذا ضرب من "العلاقات العامة" التي لا تليق بالقضاء ولم يشهد به التاريخ، فليس مطلوباً من القضاء أن يحكي عن عدالته وإستقلاله، فحاله وأعماله هي التي تحكي عنه، فالقاعدة الأذلية أن "الشيئ يتحدث عن ذاته"، كما ليس هناك وجه لتعليق رئيس البرلمان، وهو تعليق مُضحك وطريف ويُثبت أن شخصية "يونس شلبي" في المسرح ليست من الخيال، قال أكبر كبير تحت قبة البرلمان: "هناك حقائق مغلوطة في القضية، فالفتاة المرتدة ليست "طبيبة" تخرجت من جامعة الخرطوم وانما خريجة "مختبرات" تخرجت من جامعة السودان". ألم نقل بأن قطار الوطن يمضي نحو الهاوية وبلا سائق !!، وإذا كان هناك ثمة واجب يقع على إدارة القضاء فهي أن تقوم بتدريب القضاة على مبادئ علم العقاب بما يجعل مثل هذا القاضي يدرك بأنه يُضحك عليه العوام بجمعه بين عقوبة الجلد والإعدام. واجب الدولة الشرعي هو أن تلتفت لمساءلة الذين أفسدوا في الأرض وسرقوا أموال الشعب وثرواته و بواسطة وخانوا التراب وفرطوا فيه وقطعوا أعناق العباد وأرزاقهم بالباطل، فليس هناك خلافاً في تفسير قوله تعالى في محكم تنزيله: "انما جزاء الذين يُحاربون الله ورسوله ويسعوْنَ في الأرض فساداً أنْ يُقتّلوا أويُصلّبوا أوتُقطّع أيديهُمْ وأرجلَهُمْ مِنْ خِلافٍ أو يُنفَوْا من الأرضِ ذلكَ لهمْ خِزْيٌ في الدنيا ولهم في الآخرةِ عذابٌ عظيمٌ". سيف الدولة حمدناالله [email protected]