ثمة مايشبه حالة فراغ فى السلطة ، ناتج عن مرض الرئيس، تملأه الشائعات والقلق، والترقب ، اثر نشر قوات الدعم السريع فى محيط العاصمة ورفع استعداد الشرطة للحد الاقصى. فى الوقت الذى وصلت فيه مساعى الخروج من الازمة عبر بوابة الحوار الوطنى الى طريق مسدود باعتقال السيد الصادق المهدى، ابرز القوى المراهنة على الحوار والتقارب مع النظام. ماأثار قلق المجتمع الدولى ، ممثلا فى الاتحاد الافريقى ، والذى راهن بدوره، على الحوار الوطنى ، كطريق لخروج السودان من ازماته، بمافى ذلك حرب المنطقتين ، التى يعمل الاتحاد ، عبر وسيطه ثابو مبيكى ، على تسويتها عن طريق التفاوض بين طرفى الحرب. وفى سياق هذا التراجع والارتداد عن مسار الخروج من الازمة ، هدد وزير الاعلام باغلاق المزيد من الصحف، بعد ايقاف صحيفة الصيحة، فى مؤشر واضح نحو انعطاف للتضييق على الحريات. ويبدو امر ايقاف الصحيفة مثيرا للتساؤل . فهى لم تتطرق الى القوات المسلحة او الدعم السريع او غير ذلك مما يصطلح على تسميته بالخطوط الحمراء. فقد نشرت الصحيفة اتهامات موثقة بتجاوزات فى بعض الاراضى، واعطت الفرصة للشخص المعنى للرد، وفق مايقرره القانون، ومع ذلك فقد استخدم حقه القانونى ، فى مقاضاة الصحيفة. وقد بدات اجراءات قانونية بالفعل، الامر الذى يفرض انتظار ماتنتهى اليه. وماقد تقرره المحكمة. اما استباق هذه الاجراءات القضائية بوقف الصحيفة فليس له مايبرره، غيركونه مسعى لايقاف نشر المزيد من الفساد الموثق. . ويتضامن ايقاف صحيفة الصيحة مع اعتقال الصادق المهدى فى تكوين معالم الازمة فى مرحلتها الراهنة، واهم عناوينها الردة عن الحوار الوطنى ووعود الحريات، واعتقال البلاد فى مربع الازمة. ولاينعزل ذلك عن فرضية الصراع الداخلى بين مراكز القوى ، والذى ربما كان غياب الرئيس عن مطبخ صناعة القرار حافزا لاستعاره، فى شكل فضح متبادل للفساد. فى وقت سابق وفى ظروف مماثلة ، شغل القائمون على الامر – وفى غياب الرئيس أثر وعكة صحية أيضا- الرأى العام بالكشف عن محاولة انقلابية فاشلة يتزعمها العميد ود ابراهيم ، واضيف اليه لاحقا، الفريق صلاح قوش، مدير جهاز الامن والمخابرات السابق. غير ان هذه المره، شهدت نشر قوات الدعم السريع ، التابعة لجهاز الامن والمخابرات الوطنى ، وبالتالى، قطع الطريق امام احتمال ظهور ود ابراهيم جديد او قوش آخر، ضمن محاولة محملة للانقلاب على السلطة. ان استدعاء هذه القوات من مناطق العمليات فى جنوب كردفان ودارفور ، ونشرها فى العاصمة لايخلو من دلالة . فهو مؤشر الى تغير فى طبيعة الصراع الاساسى وميدانه. وبافتراض وجود صراع بين الصقور والحمائم ، فى داخل النظام ، بدلالة الاضطراب فى الموقف من كثير من القضايا، وعلى رأسها قضية الحوار الوطنى ، فان استدعاء القوات يهدف الى ترجيح كفة احد طرفى الصراع على الاخر. وبالنتيجة ، الزج بهذه القوات فى حلبة الصراع السياسى حول السلطة، كلاعب جديد فى الميدان. منذ اتفاقية نيفاشا، وابوجا واسمرا والقاهرة والدوحة ، وغيرها من الاتفاقات التى تم عقدها مع العديد من الحركات المتمردة ، فان تلك الاتفاقات ،لم تُحدث تغييرا جوهريا فى بنية السلطة السياسية ، المنبثقة من انقلاب 30 يونيو 1989، كنظام عسكرى ، ظل يعتمد كليا على القوة العسكرية ،ويرهن تطوره على مكانيزمات ، مرتبطه بجوهره كنظام شمولى، خاصة فيما يتعلق بركيزته الاساسية . فالحركات المسلحة ، ومليشياتها ، لم تشكل غير ملحقات عسكرية – سياسية ، بلا أثر ملموس ،واتخذت اهم التغييرات فى صفوفه طابع الانقلاب او الحركات التصحيحية ، حسب التعبير الشائع فى وصف الانقلابات المضادة .ابرز تلك التغييرات الاطاحة بالدكتور الترابى ، مهندس الانقلاب نفسه. وقد تم التخلص لاحقا ، وبنقلة واحدة، مما عرف بالمجموعة الامنية ، بقيادة على عثمان، التى اشرفت على الانقلاب وتأسيس حكم الانقاذ، بالتحالف مع العسكريين ، فى مواجهة الجناح المدنى ، الذى كان يجتمع حول الدكتور حسن الترابى . وأدت التطورات ، اللاحقة فى مسيرة النظام منذ ايامه الاولى، الى اضعاف الحزب، الجبهة الاسلامية القومية ، الذى دبر الانقلاب ، وتذويبه فى النظام فى سياق صراع ، انتهى بتغلب العسكريين على المدنيين، وسيطرتهم التامة على الوضع. يعتبر حضور قوات الدعم السريع ، فى مركز الاحداث السياسية ، عنصرا جديدا، فى الصراع السياسى ،فهو مؤشر الى ان الصراع قد بلغ مستوى ، يهدد بالانفجار، وان الاوضاع توشك ان تفلت. لايتعلق الامر بنمو المعارضة الشعبية فى الشارع ، او المسلحة فى دارفور وجنوبى كردفان والنيل الازرق ، بقدرما يتعلق بتنامى الصراع داخل النظام ، مع تزايد الازمة العامة وتفاقمها. فانهيار النظام من داخله ، يبقى احد الاحتمالات، التى تصطف الى جانب خيارات الانتفاضة، وغيرها من الرهانات السياسية. فقد أكدت المحاولة الانقلابية ، المتهم فيها العميد محمد ابراهيم عبدالجليل ، المشهور بود ابراهيم ، وكذلك اقالة الفريق صلاح قوش ، والقبض عليه وتقديمه للمحاكمة فى اتهامات مماثلة، الى جانب انشقاق دكتور غازى صلاح الدين العتبانى ، ان ثمة تآكلا قد حدث فى ولاء الركائز الاساسية للنظام، العسكرية والامنية والسياسية، او انها لم تعد – من جانب النظام – محلا للثقة. وتأتى القوة الجديدة ، فى اطار اعادة ترتيب شاملة لتلك الركائز، ممايعطى للقوات، دورا جديدا فى الوضع السياسى، وتطوراته اللاحقة