عشر سنوات قضاها الشاعر الراحل محجوب شريف في سجون نظام جعفر نميري الرئيس الأسبق للسودان من جملة ستة عشر عاما هي عمر الحكم المايوي، واستقبل نظام الإنقاذ شريف بتسع سنوات في السجون المعتقلات. هذه السنوات التي قضاها شريف بين القضبان، وضعته مع أشهر سجناء الرأي في العالم، مع الثائر الأمريكي مارتن لوثر وغيره من المناضلين، وخصصت له زنزانة من 12 زنزانة في سجن الكاتراز الامريكي الشهير، الواقع في جزيرة مواجهة لمدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا الأمريكية. جدران السجن تم تزيينها بلوحات لكل بطل، وتصدح فيها أصوات شعراء وفنانين من مختلف دول العلم وبمختلف اللغات، تعرضوا للاعتقال والمضايقات. ويمثل الكاتراز في الثقافة الشعبية الأمريكية السجن الأسطوري الذي لم يتمكن أحد سجنائه من الهرب منه حيا، وهو يجسد معاني القسوة والحرمان والتطلع الغريزي نحو الحرية، وهو سجن فدرالي امريكي من أقسى وأعنف سجون العالم، وكان موضوعا لعدد من الأفلام الأمريكية، أغلق عام 1963 ليصبح متحفا يزوره عدد من السياح من مختلف دول العالم تصل أعدادهم إلى مليون ونصف المليون زائر في السنة. وتحول السجن إلى معرض فني في الفترة من 27 أيلول/سبتمبر 2014 وحتى 26 نيسان/ ابريل 2015، ويسلط هذا المعرض الضوء على مبدعين وشخصيات عامة ناضلوا من أجل حرية التعبير وتعرضوا للاعتقال السياسي في أماكن وأزمان مختلفة، وتم الاختيار على أساس بحث واستشارة من منظمة العفو الدولية، واختير محجوب شريف الذي يسميه السودانيون «شاعر الشعب» من ضمن هذه الشخصيات، والقصيدة التي اختيرت لمحجوب ولدت في السجن واسمها «عصفور الحنين» يلقيها بصوته، ومصحوبة بترجمة باللغة الإنكليزية أنجزها عادل سيد أحمد، فقد كتبها شريف أول مرة في سجن سواكن «شرق السودان»، وتم تطريز كلماتها باليد في قطعة قماش وتهريبها من السجن. ويقول الكاتب عصام الأمين، إنّ محجوب شريف شاعر مسكون بحب الشعب، ويضيف: «ولا عجب أن اطلق عليه شاعر الشعب، والمتأمل في أشعاره يجد ميله نحو الغناء بآمال الناس وآلامهم وأفراحهم، مما يدلل على نفسية الشاعر، يظهر ذلك في حياته بسجن كوبرو شالا بغرب السودان، حيث ملأ الدفتر الأول والثاني بكل ما هو إنساني، وقد وظف شعره بصورة واضحة وجلية ضد الديكتاتوريات العسكرية وحكم الفرد والأنظمة الشمولية وحلمه بوطن خيّر ديمقراطي». شهد عام 1948 ميلاد محجوب بقرية أب قدوم ريفي المسلمية بوسط السودان وتوفي في 2 أبريل 2014 في أم درمان، وبين هاتين اللافتتين اشتعلت حياته نضالا وشعرا ومشاريع من أجل المجتمع، وخلّف سيرة ذاتية ناصعة البياض، فقد تلقى تعليمه بالمرحلة الأولية والوسطى بين أعوام 1958 حتى 1962 في مدارس «المدينة العرب» بوسط السودان، ثم معهد «مريدي للمعلمين» بالخرطوم، وتخرج معلماً في 141968م، وعمل منذ عام تخرجه في 1968 معلماً بالمدارس الابتدائية. لم تكن حياته مستقرة بسبب مواقفه وفصل تعسفياً عدة مرات خلال مسيرة عمله، ورغم ذلك ابتكر خلال فترات تدريسه عدداً من طرق التدريس، التي تعتمد على التعلم بالمشاركة الأساسية مع التلاميذ في الإعداد للمادة التعليمية ومسرحتها، وكان مشرفاً تربوياً بمكتب تعليم أم درمان قسم المناشط التربوية بالمدارس الحكومية في الفترة 1987-1989. ومن أهم منجزاته في تلك الفترة، أنه قاد مبادرة مشروع إعادة المكتبة المدرسية، الذي أسس مكتبة لكل مدرسة ابتدائية بأم درمان وأريافها عام 1986، وفي ذلك أقام عدداً من البرامج الثقافية ومعارض للكتاب. وابتدر بالتعاون مع وزارة الصحة الاتحادية مشروعا لمكافحة الإسهالات مستهدفاً المعلمين، التلاميذ وأولياء الأمور، وابتكر عدة برامج للتثقيف، وفي ذلك صمم صالونا متحركاً، وأشرف على تصنيعه وملّكه لمكتب المناشط التربوية لتقام عليه ندوات، أيضا صمم ونفذ النتيجة الموحدة للتحصيل الأكاديمي للتلاميذ في عامي 1987 و1988. وهو صاحب فكرة ومؤسس لمنظمة أصدقاء الأطفال المصابين بالفشل الكلوي منذ عام 2000، وقاد حملة مالية ببريطانيا لدعم المنظمة أثناء رحلة تشخيص مرضه بلندن سنة 2006 ،وبادر في تكوين عشرات الانشطة لدعم وخدمة المواطنين في المناطق الريفية. في مجال الثقافة والفكر كان محجوب شريف سكرتيرا لاتحاد شعراء الأغنية السودانية منذ عام 1968 وحتى عام 1970، كان عضو اللجنة التنفيذية لاتحاد الكتاب السودانيين وارتبط بمركز عبد الكريم ميرغني الثقافي بأمدرمان ومعظم مبادراته كانت تنطلق من هذا المركز الذي شغل فيه عدة مناصب أبرزها عضوية مجلس الأمناء وعضوية اللجنة التنفيذية. ومنذ مجيء ثورة الإنقاذ قاطع محجوب كل أجهزة الإعلام من صحف وإذاعات وقنوات فضائية، في موقف مبدئي ضد سياسات الدولة الممنهجة في انتهاك حرية التعبير، ولم يدل بتصريحات حتى للصحف المستقلة لاعتقاده بأن هامش الحرية المتاح عبارة عن ماكياج «قبيح» لتزيين وجه السلطة. فصلته سلطات حكومة «الإنقاذ» منذ يوليو/تموز 1989 وحتى يوم وفاته في 2014، وزاره بعد سنوات من حكم «الإنقاذ» أحد الوزراء ليبلغه رغبة الحكومة في إعادته للعمل، فتصدت ابنته للمسؤول مطالبة بإعادة كل الذين فصلتهم السلطة منذ مجيئها، وبعد ذلك يمكن أن ينظر والدها في أمر عودته للخدمة. وعلى المستوى الشعبي حظي بتقدير كبير من كل فئات الشعب ومؤسسات المجتمع المدني ومنحته جامعة الأحفاد للبنات الدكتوراه الفخرية في القانون عام 2012. تعرض لوعكة صحية منذ عدة سنوات وكان يستخدم «كمامة» في تحركاته وجهازا للأكسجين، إلى ان توفاه الأجل المحتوم وشيعته جموع كبيرة من الشعب السوداني من دون حضور أي مسؤول رسمي حسب وصيته. القدس العربي