حينما كان الهادي الجبل في مهرجان ميلاد الأغنيات قبل عام من الآن.. كانت الدهشة تعتلي الوجوه وترتسم فيها.. لأن الرجل قدم أغنية كانت عصرية وجديدة في كل تفاصيلها ومكوناتها، حيث اللحن الذي يعد فتحاً جديداً في شكل التلحين، وذلك اللحن البديع والجميل ليس بغريب على الهادي حامد (ود الجبل) الفنان الذي تتطاول قامته اللحنية، بل هي أصبحت سمته الأبرز.. وأغنية (من ناس وين) بغير لحنها المتجاوز كانت تحتشد بلغة غير مألوفة استحدثها الشاعر قاسم أبو زيد، وهو شاعر دائماً يبحث عن الأفكار غير المطروقة مع أنه يستخدم اللغة العادية اليومية، حيث يقول: بين المغرب والعصرية.. ظهرت أجمل بت عصرية.. سمحة الوقفة الغصن الفارع لون الشمس الما ذهبية.. خاتمه معالم ما عادية.. بين الجيد والوجه النهر هكذا بدأ النص الشعري لتلك الأغنية بنوع من التفكير الجديد الذي يتسامى فوق العادية، وهو نوع متطور من أشكال التوصيف والأحداث الذاتية التي تحتشد وتمتلئ عن آخرها بالدراما حتى لتصبح وكأنها نص مسرحي يتسم بكل حراكات المسرح وانفعالاته.. والقصيدة عند قاسم أبو زيد لها نفس تلك الأبعاد الدرامية، حيث الحكاية والعقدة ثم الإجابة التي أحيانا تصبح ذات نفسها عبارة عن سؤال كبير وعريض.. وقاسم أبو زيد شاعر المفردة عندما تتحرك وتتفاعل وتتعايش ولا تعيش بعيداً عن الهموم اليومية، ولعل تجربته الحياتية كانت لها إسقاطاتها على التفكير الكتابي لديه.. لذلك تجده يتجه نحو الواقعية: كتير بنعاتب الحاضر ولا أسفاً على الماضي صدق الرؤية من قلبك.. بين الشوف وإنسانك نغم فنان يعيش راضى مداك إتعدى حد الشوف دخلت على الشعر.. إنسان وهواك.. إتختّ جوة الجوف وانتحر النهار .. هسّة نغنيك لي مدن .. شاخت معاك أحلامي .. ما تنسى تغنيك القرى الراحت خلاص يا غربة .. ما ترسى عنيناك .. وبنغني وبتحدى الزمن .. فنان .. عبقرية قاسم أبو زيد ظهرت تأثيراتها على غنائية مصطفى سيد أحمد.. والمدرسة الغنائية التي جاء بها مصطفى لا يمكن مطلقاً أن نشير إليها دون التوقف عند قاسم أبو زيد ويحيى فضل الله.. ومصطفى سيد أحمد حينما يحكي عن قصة تأمر بعض الشعراء عليه لا يستحي من أن يقول إنه اتجه (للشعراء الصعاليك)، ولعلها الكلمة الأعمق في توصيف التمرد الإبداعي والأشكال الكتابية التي طرقوها.. وهذا اتضح في كل الأغنيات اللاحقة التي تغنى بها مصطفى سيد أحمد، حيث غنى ليحيى فضل الله أغنية (يا ضلنا) وهي الأغنية التي رفضتها لجنة النصوص وقتها بسبب إيغالها في الرمزية: يا ضلنا المرسوم على رمل المسافة وشاكي من طول الطريق.. قول للبنية الخايفة من نار الحروف تحرق بيوتات الفريق.. قول ليها ما تتخوفي دي النسمة بتجيب الأمل والأمل بصبح رفيق.. وعلى رغم اختلاف الأسلوب الكتابي ما بين قاسم أبو زيد ويحيى فضل الله، لكن نجد أن هناك ثمة ما يجمع بينهما وهذا يتضح في قصيدة (ضليت): مرقت على محطات السفر غربة وما لقيتك.. أمل شارد مع إنك معاي في زحمة المشوار وحتى يقيني عاد من تاني صحاك من حنين ذاتي... نجمة الفرحة يا عايد الخيوط الأبداعية: ثمة تراكيب ومكونات إبداعية لقاسم أبو زيد، فهو غير أنه شاعر، هو كاتب درامي رفيع المستوى والخيال، وكذلك هو مخرج له رؤية تتوغل في جذور الأشياء وتغوص فيها، وتلك المكونات خلقت له فضاء إبداعياً واسعاً وخيوطاً كثيرة استطاع بها أن ينسج تجربته ويتقن تقويتها وتماسكها، ثم القدرة على تطويرها حتى تواكب الحياة ودورانها المتسارع.. وتعدد الأدوات الإبداعية لدى قاسم ساهم في أن يجعله حاضراً لا يعرف الغياب. غياب مصطفى سيد أحمد: صحيح أن رحيل مصطفى سيد أحمد كان سبباً كبيراً في غياب وتغييب الكثير من الأسماء الشعرية، التي ساهمت في تشكيل تجربة مصطفى وتقديمها في قالب فكري جديد هو أقرب للمشروع الغنائي الذي له دلالاته ورسالته.. ومع غياب مصطفى سيد أحمد انطفأت تلك المصابيح الشعرية التي كنا نعول عليها في تكوين دولة شعرية جديدة.. والأمثلة تتعد لتلك الغيابات، إلا قاسم أبو زيد، لم يركن أو يتوقف في محطة الأحزان مواصلاً في تحد نبيل مسيرته الكتابية وكفاحه مع الهادي الجبل، حيث أصبحت التجربة الغنائية مع الهادي هي أشبه بالثنائية التي في طريقها لأن تكون مثل رصيفاتها السابقات من الثنائيات التي عطرت وجدان الشعب السوداني.. ففي ظرف زمني وجيز تكونت تجربة كاملة، وعلى رغم قصر عمرها لكنها مليئة بالغناء الجديد الذي يعد إضافة ثرة وغنية للغناء السوداني.. ومن تلك الأغاني ألف نهر ونيل- إنني في الدم واسألي الطير: اسألي الطير قولي ليهو: لما يتغيب خريفك بتحتو ريشك شان تعيش ولا بتموت بره جلدك ولا بتغني المواويل للرذاذ وهكذا ظل قاسم أبو زيد يكتب في جو بارد وقارس لا يحتمل التفكير الجديد أو ذلك الخطاب الشعري الذي يشرح الواقع.. ولكنه ظل يتطاول فوق كل ذلك ليكرس لشاعريته الوسيمة التي أصبحت جزءاً أصيلاً من التراث الشعري لهذا البلد. الاخبار