لا أعرف فعلاً يُجسّد معنى عبارات مثل "إجهاض الثورة" و "خيانة دم الشهداء" .. الخ مثل الحكم الذي صدر ببراءة الرئيس المصري حسني مبارك ونجليه ووزير داخليته "العادلي" ومساعديه، وعدد من رجال الأعمال فيما عُرف بمحاكمة "القرن"، وما قد حصل عليه مبارك في هذه المحاكمة هو براءة بضربة واحدة فيما كان من المفروض أن يتم في ثلاث محاكمات لا يربط بينها قاسم سوى شخص مبارك نفسه، وهي: تهمة قتل المتظاهرين وتهمة الفساد المعروفة بقضية "الفيلات الخمسة"، وأخيراً تهمة تصدير الغاز إلى إسرائيل. ليس قرار البراءة في ذاته ما يجعل المرء يأسى على هذا الحكم النكسة، فهذ شأن الشعب المصري الذي إنقسم على نفسه بين نصف يرقص عشرة بلدي في الطرقات طرباً للحكم، وآخر يلطم ويتمرغ في الطين حزناً على الدماء التي راحت هدراً، ولكن لأن مثل هذه النتيجة تُثير الرعب في قلب كل مفجوع من نظام الإنقاذ والخوف من أن يأتي اليوم الذي تحدث فيه مثل هذه النكبة بعد سقوط النظام، بأن يفلت الذين تسببوا في ضياع الوطن وتقاسموا ثرواته وسرقوا أعمارنا وأحلامنا وآمالنا من العقاب، ونتركهم هكذا يمضون بدماء شهدائنا، وهم يهنأون بما لهفوه من أموال وما غنموه من ثروات وعقارات. الذي حدث في محاكمة مبارك أنه وبالرغم من أن قضية الفساد قد ثبتت بشكل قاطع أمام المحكمة من واقع تقرير قامت بتقديمه لجنة بتكليف من المحكمة نفسها جاء فيه أن مبارك قد إستغل نفوذه وقام بمساعدة رجل الأعمال حسين سالم بالإستيلاء على عدد خمس "فيلات" تبلغ قيمتها أكثر من (29) مليون جنيه ثم قام بتسجيلها في إسم إبنيه علاء وجمال دون أن يدفع أي مقابل، برغم ثبوت التهمة إلاّ أنه لم يكن أمام المحكمة خيار سوى أن تقضي بالبراءة بسبب سقوط الجريمة بالتقادم، فقد جاء في قرار المحكمة أن تسجيل العقارات بالشهر العقاري قد تم في 14 أكتوبر 2000، وعليه فإن جريمة مبارك (جناية) تكون قد سقطت بالتقادم بإنقضاء (10) سنوات في 15 أكتوبر 2010، كما أن جريمة نجليه (جنحة) قد سقط هي الأخرى بمضي (3) سنوات في 15 أكتوبر 2003. مثل هذه الثغرة التي فلت بها مبارك ونجليه، وهي نص واضح في القانون، لا يفهم المرء كيف تفوت على الذين إنتظروا مثل هذا اليوم عشرات السنوات لمحاسبة مبارك وأنجاله وأعوانه ومن بينهم رجال محامون وخبراء قانون، حتى يُصدروا كل هذا القدر من اللطم والزعيق وهم يطالبون اليوم بإلغاء هذه المواد (التقادم) بعد أن صدر الحكم وحصل مبارك على البراءة وخرج السجن. ما ينيبنا نحن في السودان من هذه المسخرة، أن أسباب براءة مبارك ونجليه (التقادم) من هذه التهمة هي - بالحرف والنص – ما يعتمد عليه مجرمي ولصوص الإنقاذ ليفلتوا به من الجرائم التي إرتكبوها في حق الوطن والمواطنين، ذلك أنه وحتى مجيئ الإنقاذ لم يكن القانون السوداني - كشأن معظم الدول المتحضرة - يعرف سقوط الجرائم بالتقادم، وقد فطن نظام الإنقاذ لهذه الحيلة بعد تورطه في جرائم الإعدامات والتعذيب والقتل التي حدثت في سنوات حكمه الأولى، فقام في العام 1991 بإدخال مواد في القانون تقضي بسقوط الجرائم بتقادم المدة، أصبحت أي جريمة تسقط بموجبها تلقائياً إذا مضى على إرتكابها (5) سنوات، بإستثناء الجرائم التي تكون عقوبتها الإعدام أو السجن عشرة سنوات فأكثر والتي تسقط بمضي (10) سنوات على إرتكابها (المادة 38 من قانون الإجراءات الجنائية)، كما أدخل مادة في قانون المعاملات المدنية تسقط بموجبها جميع دعاوى التعويض عن الضرر بمضي (5) سنوات على وقوع الفعل الضار (المادة 159). ليس كافياً أن يُحسن الشعب الظن في الجهات والأحزاب التي يؤول إليها حكم البلاد بعد زوال النظام حتى تقطع مثل هذا الطريق على لصوص ومجرمي الإنقاذ، فالطبقة التي تتولى الحكم بعد كل ثورة هي من غير طبقة الذين يُشعلون الثورة ويُقدمون دمائهم في سبيل نجاحها، فالذين يقفزون إلى كراسي الحكم عقب كل ثورة لهم قواعد وجذور ومصالح مع الأنظمة التي تتم الإطاحة بها - إن لم يكونوا شركاء لها من الباطن - تدفعهم لحماية المجرمين في مثل تلك الأنظمة مثلما حدث عقب ثورة أبريل 1985، حيث إنتهت كل محاكمات جرائم الفساد التي أرتكبت خلال حقبة مايو إلى لا شيئ والتعساء من أولئك المجرمين من فرضت عليهم تسويات مالية دفعوا بموجبها الذين جزءاً من حصيلة تلك الجرائم ومضوا في حال سبيلهم بالباقي، ولم يكن مصير الجرائم القتل والتعذيب التي أرتكبت بواسطة عناصر أمن الدولة بأفضل من ذلك، فلا يزال مصير كثير من الأشخاص الذين جرى إعتقالهم في سجون مايو ثم إختفوا من سطح الأرض مجهول حتى اليوم. لا أعتقد أن الشعب لديه إستعداد هذه المرة لقبول مثل هذه المسخرة التي تمت في الماضي، فيكفي الشعب أن النظام قد سرق منه العمر الذي ضاع ولن يعود، والغبن الذي أحال حياة الناس جحيم، فليس هناك بيت لم يطاله جرح أو ظلم من وراء هذا النظام الفاسد والتالف، وكما سبق لنا القول فإن الخطأ الذي إرتكبه الشعب في الثورتين السابقتين (أكتوبر وأبريل) أنه بحراسة ثورته حتى لا يتم السطو عليها، فقد ألقى الشعب بفروع النيم التي كان يحملها بمجرد نجاح الثورة وسقوط النظام وإنصرف في حال سبيله، فقد كان الواجب أن تستمر الثورة حتى يرى الشعب أن أهدافها قد تحققت، وأولها تحقيق القصاص ومصادرة الأموال المنهوبة وإستردادها من أيدي اللصوص. ليس الوقت مبكر لفتح هذا الملف كما يعتقد كثير من الناس، والصحيح أن هذا هو الوقت الملائم لمعالجة مثل هذه القضايا، فلن يكون هناك متسع من الوقت حين تنشأ الحاجة إليها، وهناك كثير من الجهد والعمل الذي ينبغي القيام به منذ الآن حتى يتم الإستعداد لليوم الموعود الذي نكاد نراه رؤى العين، ولا بد أن يعكف ذوي الإهتمام والإختصاص للبحث في هذا الموضوع، وصياغة مقترحات قوانين "العدالة الإنتقالية"، وهو الطريق الذي بدأ مشواره الأستاذ المحترم والقانوني الضليع علي محمود حسنين، بما يضمن تفادي الخطأ الذي وقعت فيه الثورة المصرية، فلا قيمة لثورة إذا لم تمكّن الشعب من إسترداد حقوقه المسلوبة والمنهوبة، ودون أن تتمكن من القصاص لدماء الشهداء الذين قدموا أرواحهم لينشدوا لغيرهم الحرية. لا ينتهي هذا الحديث عن البراءة التي حصل عليها الرئيس مبارك دون التعرض إلى وجه آخر لا يقل سواداً وفجيعة عن براءته بتقادم جرائمه بمضي المدة، وهو ما ورد في حيثيات براءته من تهمة قتل المتظاهرين، فقد إستند قرار البراءة على عدم تضمين إسم حسني مبارك في أمر الإحالة الذي صدر من النيابة العامة ضد وزير الداخلية ومساعديه، وإعتبرت المحكمة أن إغفال تدوين إسم الرئيس في أمر الإحالة يعتبر قراراً ضمنياً من النيابة العامة بعدم وجود وجه لإقامة الدعوى الجنائية في مواجهته. مثل هذا التصرف من النيابة المصرية، وهي نيابة لها إرث وتاريخ، يجعلنا منذ الآن ننصب صيوان المأتم لما سيصيبنا من نيابة السودان التي نشأت وترعرعت في كنف الإنقاذ، ويجلس على قمتها أستاذ كرسي جرائم فساد الأراضي (عصام عبدالقادر) الذي لا يزال على رأس عمله يُسائل غيره من المجرمين ويُؤشر بقلمه بإحالتهم للمحاكمة دون أن يسأله سائل، وفي هذا، ولا شك، ما يسيئ إلى كثير من وكلاء النيابة والمستشارين الشرفاء وأصحاب الضمير. سيف الدولة حمدناالله [email protected]