مدني في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات مدينة تضج بالحياة ، الليالي الشعرية والمنتديات الأدبية والعروض المسرحية ومسرح الشارع والمعارض التشكيلية، مئات المبدعين ملوا سوح المدينة بإبداعاتهم التي احتضنتها رابطة الجزيرة للآداب والفنون بمقرها الكائن بالمركز الثقافي البريطاني. ثلة من المبدعين اجتمعوا على كلمة سواء ، فطنوا إلى أن الوطن يسرق جهاراً نهاراً فتصدوا بأقلامهم لزيف شعارات زبانية السلطة وفضحوها على الملأ فعمدوا مدني أميرة المدن المناضلة. محمد محي الدين، مجذوب عيدروس، بشير زمبة، أحمد الفضل أحمد، السر الزين، مجدي النعيم محمد الفاتح يوسف أبوعاقلة ، علما وإسماعيل عبد الحفيظ وخالد كودي ومحمد عبد النبي والشهيد طه يوسف عبيد، عادل عبد الرحمن وكثيرين غيرهم. محمد محي الدين كان فتى المدينة وفارس الكلمة ممتطياً صهوة جواده البرقي يجوب حواري المدينة يسامر سميرة العرجاء وعبدالله ودسيدي والخير ودبله العوقة وكل مهمشي المدينة .. ينتظر الفرج على كراسي مقاهي المدينة مكسورة الأيدي ويعتلي صهوة فروة الشيخ العليش الرمادية عابراً بحار الحلم الجميل بالخلاص من ربق الديكتاتورية المايوية. في لوحاته العشرة لوادمدني وهي تخرج مجاهرة بمعارضتها للديكتاتورية المايوية والتي توجتها بتقديم زهرة شبابها طه يوسف عبيد فداءاً للوطن قدم محمد بانوراما للحظة الفعل مازج فيها بين قدراته كمسرحي دارس ومتمرس وشاعر شفيف فأتت لوحاته معبرة عن اللحظة التاريخية موثقة للحدث بتفاصيله الدقيقة: على الشاطئ عمال المجاري بائعات الكسرة والشماسة النسوة أربا المعاشات كراسي الخشب المكسورة الأيدي زمانا في مقاهي السوق تشتاق رواداً يضيئون الزوايا. في هذه اللحظة كان: رجال الأمن يوفون نذور الحب للتجار والسادة والقادة والأطفال يوفون نذور الحب للأرض البيوت انتفضت بالأرجل الراكضة الأردية الخضراء والزرقاء والكتب الحكايات المجلات الطباشير المناديل الزهور النور والنسوة ينشرن الجلاليب على الجدران جهزن الملاءات الحنوط الكسرة الصامتة الصامدة وبيانات الأمن والشرطة العسكرية تتوالى: لا إله سوى البندقية والحاكمية للشرطة العسكرية والأمر للأمن والنهي للجند كل مهمشي المدينة ورجالات طرقها الصوفية استدعاهم محمد لوليمة الثورة وبحكم مستويات الوعي التي ينشدها كان الباعة والعمال أول من انتبهوا لهبة الشارع ومن ثم خرج من قبة ودمدني السني رمز المدينة المناضلة رجالات طرقها الصوفية منحازين لأبنائهم: انتبه عمال المجاري والمادح وبائعة الليمون ومن قبة ودمدني السني خرج الدراويش والكهول حمد النيل في المقدمة يحمل رايته الخضراء العليش ترك فروته الرمادية أمام الكونتننتال وفاطمة القروية كانت تهرول بين السوق الجديد وكلية المعلمات كان الأسفلت يبدو جديداً وأنيقاً وقف النهر لحظة يستعيد أنفاسه صعد الشيخ عبدالسيد وتاج الدين كان الناطق يفتح شبابيك النهر ويحمل نوبة من جلد الدمور وجريدة لم يحن أوان قراءتها بعد انفرد عوض الجيد بالغناء وانفردت سميرة بالرقص خرجت المدينة منتصرة وشامخة من معركتها رغم كونها مثخنة بجراح الفقد. محمد محي الدين ابن أزقة المدينة وحواريها يعرفها وتعرفه إلفها فالفته لم يصبر على الغربة في اليمن ولم يقدر على العيش في الخرطوم لم يكن قادراً على أن يتنفس غير هواء مدينته التي عشقها حد الثمالة. سعادته تكتمل حين يحادث ضاحكاً ومازحاً مهمشي المدينة يحبهم ويحبونه ، لم أشاهده يرتدي ربطة العنق أو يتكلف الحياة كان بسيطاً حد الدهشة وعظيماً كالراسيات الشوامخ قوي الحضور حتى في بساطته وأنسه. ظل يلوح بمناديل الوداع دون أن ننتبه: لا أجد ساعة للبكاء المناديل تحترق. هذه المناديل التي تبادلها مع الحبيبة خلسة: سلميني خلسة منديل المعطار وتعالي نتسامر. ثنائية المناديل والعصافير لدى محمد تحتاج وقفة ناقدة فهي تأتي دون استئذان إلى صلب القصيدة رديف لحظات الفعل الجماهيري العصافير الجماهير المناديل الأمن والسلام والمناديل مزامير يزغردن عصافير بصوت فجعته صعقة الرعب العصافير تراجعن وأعلن الهتاف المر نشرن المناديل على الأبواب ثبتن المزامير على قلب الناجر والمزامير عصافير اذابت بحة الجوع وآهات الشبابيك قليلاً وأضاءت لغة الأسفلت بالأحمر لأن العصافير لدى محمد محي الدين لا تهادن: الشوارع لا تعرف الصمت عاهدتني على البوح إن مرت العصافير بعد قليل. وكذلك: سوف أنادي ربما عاد صوتي مسحته بالمناديل والعصافير هاجرت والموج ومن ثم: يقترح الموج أوبرا التأمل تقترح العصافير سيمفونية الانتباه عصافير محمد محي الدين طليقة لا تعرف غير الحرية: العصافير لا تعرف السجن هل نلتقي؟ أيها القابض جمر التوق آلاف الشبابيك تناديك فلا ترحل على أن الحسرة من ظلم ذوي القربى شديدة على النفس لكن أهلي البريئون شنقوا كلمات العصافير في عمق ربابتي المناديل رديف المحبة والأمان: تأتيك المناديل الوضيئة وعلى كل العيون في الليل تمدد ما يجئ الحب إلا فجأة تهتز كل الدور ترتاح العصافير على الأبواب يمضي زمن الرعب وينمو في العبارات القصور ينشر الفجر ضياء الأمن في الساحة والشط ينادي رائعاً يلتقي العشاق جهراً لعشق من نوع خاص ، عشق يموسق ربابة الشاعر ويفجر كوامنه : أتجدد فيك وأعلن عشقي المخبأ للشجرِ المختلي بالبناتِ وللقمح يسطعُ بين ضفائرك النائماتِ وأعلن عشقي لعينين نافذتينِ من العشب والموج والأغنياتِ الشاعر الذي شاهد نعيه بأم عينيه : أسأل عنك أعين أطفال المدارس هل شاهدوك هل راقبوا في عيونك أسباب موتي المفاجئ هل أخبروا أصدقائي بأنك وحدك تبكين سبب هذا الوداع توسد محمد محي الدين ساعده وغادرنا إلى لدن كريم غفور تاركاً جرحاً غائراً وتساؤلاً مؤرقاً: لماذا دوماً يغادرنا في هذا الزمن الرديء الشعراء والمبدعون دون استئذان ، يتسربون من بين أيدينا كالضوء دون أن ترتج أركان البلاد ولسان حالنا يردد مع محمد نجيب محمد علي في رثائه لسامي سالم: "أيها الوطن الصامت مثل الأعواد الخشبية فلتنفجر الليلة بالضحك وبالتهليل قد مات الولد المجنون العاق" اللهم أرحم محمد محي الدين وتقبله في زمرة الشهداء والصديقين فإننا نشهد له بحبه لشعبه وطهارة يده ونقاء سريرته. [email protected]