* ليس ثمة حديث منذ مدة ليست قصيرة، ينتظم وساءل التواصل الاجتماعي (بمختلف اشكالها) سوى الحديث عن ((التغيير)) والملاحظ ان التغيير يعني للغالبية العظمى، للمتحاورين (او المتناقشين او المتساجلين او المتهاترين): اسقاط نظام المؤتمر الوطني الاسلاموي الاجرامي، وهذا - يطرح سؤال: هل يعني سقوط هذا النظام بالضرورة حدوث تغيير جذري، يجنب ما تبقى من السودان، اعادة انتاج تجارب الماضي؟ هل فعلا بسقوط هذا النظام، سينتقل ما تبقى من السودان، الى مرحلة السلام، واعادة البناء والتنمية والمؤسسات والديموقراطية والمواطنة وحقوق الانسان والتوزيع العادل للسلطة والثروة؟ * لست من المتشاءمين ولكنني ازعم، ان النظام الذي نتحدث عنه لا يتمثل في المؤتمر الوطني فحسب، بل هو حلف ثلاثي بين (المؤتمر الوطني-الشعبي)= (الجبهة الاسلامية) من جهة، وحزب الامة والحزب الاتحادي من الجهة الاخرى. * هذا الحلف الثلاثي، هو ما عمق من ازمة السودان، وادى لهذا المشهد المروع؛ الذي نراه الان.. مشهد فاجع لوطن يحتضر!! ولنوضح مزاعمنا، سنستعرض باختصار وبصورة عامة (تجنبا للتطويل) دور هذا الحلف التاريخي الكارثي، وخطورته على ما تبقى من الجغرافيا وشعبها. * الناظر لعمر الازمة السودانية، التي شملت كل جوانب الحياة، يجد انها الاكثر طولا وتعقيدا. ورغم المحاولات الدؤوبة (المعلنة)لحل هذه الازمة، التي تبلورت تشكلاتها بصورة حاسمة منذ اواخر اربعينيات القرن الماضي، خلال مؤتمر جوبا -(والذي ستلقي نتاءجه وما تمخض عنه ظلال بعيدة، تخلف اثرا عميقا)- ظلت ازمة السودان في تصاعد مستمر، حيث لم تنتهي بانفصال الجنوب في السنوات القليلة الماضية، بل دخلت مرحلة جديدة هي الاسوا، في تاريخ هذه الازمة الشاملة المستفحلة، التي لا يلوح افق لحلها جذريا. وذلك لان (نظام تفكير) اطراف الازمة الاساسيين سواء في الماضي بعيد الاستقلال (الامة والاتحادي) او الان (باضافة الجبهة الاسلامية)لم يتغير، بل االممارسات السياسية الخاطءة لهذا الثلاثي الكارثي، في تراكمها المستمر بمرور الوقت، ادت الى ميلاد ودخول لاعبين جدد، عمق ميلادهم وما لعبوا من ادوار، من هذه الازمة المستوطنة. سنتناول هنا باختصار شديد، الاطراف الاساسية لازمة السودان، والتي تتحمل المسؤلية العظمى لما ال اليه حاله، من تمزق في الجغرافيا، وتشرزم في المجتمعات المدنية والريفية، وحروبات اهلية لم تعد عاصمة البلاد بمناى عنها، وانهيار شمل الاقتصاد وكل جوانب الحياة. اولا: (1) الجبهة الاسلامية القومية: وهنا، عندما نتحدث هنا عن الجبهة الاسلامية، فانما نتحدث عن مؤسسها الترابي، والعكس ايضا صحيح.. نشات الجبهة الاسلامية القومية، وترعرعت كحركة اسلامية حديثة، منذ اواخر خمسينيات القرن الماضي (الاخوان المسلمين)، في كنف الطاءفية وحظاءرها، ومثلت طليعة متقدمة للطاءفية، مثلما مثلت الطاءفية رصيدا ومنبعا، يزودها باسباب البقاء والنمو. وبعيد سقوط النظام المايوي، وعقب انتفاضة 1985، دخلت الجبهة الاسلامية مرحلة جديدة من تاريخ تكوينها، الذي اشتمل على توجهات اسلاموية وقوموية مختلفة، وظلت منذ تكوينها الاولي (الاخوان المسلمين)، تسعى للسلطة عبر بوابة توظيف الدين، كراسمال معنوي، للحصول على مكاسب مادية. وقد وظفته لاقصى حد، لنيل عطف وتعاطف الشعب، في اكبر واوسع حملة دعاءية ونفسية، تبتز المشاعر الدينية للمواطنين، ما ادى الى فوزها في انتخابات 1986 باربعة وخمسون دائرة انتخابية، محرزة بذلك المرتبة الثالثة، بعد الامة والاتحادي في تلك الانتخابات، وفي الحقيقة اشر الانتصار الذي حققته في عاصمة البلاد، ودواءر المتعلمين، على التراجع المخيف لتيار التنوير، الذي انتهكت جرفه وهدمته (دواءر الخريجين). كما اشر على مسالة مهمة، لم تاخذ حظها من الدراسة والبحث من قبل المهتمين، اذ عبرت: من جهة عن فشل خطاب القوى التقدمية والمعتدلة، وسقوطه في معقله (دواءر الخريجين) الامر الذي اشر على الانقلاب عبر الديموقراطية، على مصدر مشروع التنوير، وصناعه وقادته! كما اشر على تاكل نفوذ الطاءفية (التي لطالما تحالفت مع المتعلمين والمثقفين، المتطلعين للوصول الى البرلمان باقصر الطرق، حتى لو تحالفوا ضد مصالح سواد شعبهم، بتنازلهم عن لعب دور الضمير لهذا الشعب) بصورة حاسمة. ونتيجة لهذه القفزة الكبيرة، والتي جعلت الجبهة الاسلامية، شريكا مؤثرا في حكم السودان، وتوجيه سياساته، تمكنت من تطوير قدراتها الاقتصادية، وتمتين تنظيمها، واختراق مؤسسات الدولة المدنية والسياسية والعسكرية، بل وتخللت كاخطبوط الانشطة الاقتصادية، مستهدفة وراثة نفوذ حزب الامة على (النشاط الزراعي) ونفوذ الحزب الاتحادي على (النشاط التجاري)، عبر راسماليتها الطفيلية الوليدة. ووفقا لتوجهات الترابي او الجبهة الاسلامية، منذ العهد المايوي، كان واضحا انها لا ترى في سبيل وصولها الى غاياتها، غضاضة في ممارسة اي نوع من الوساءل (الغاية تبرر الوسيلة) للوصول الى اهدافها. ولذلك لم تتوانى في مشاركة النظام المايوي، لتحقق مكاسبا لمشروعها الظلامي، دون ان تتخذ موقفا اخلاقيا من جراءم النظام، بل بررت لنظام مايو جراءمه، وشرعنتها بقوانين سبتمبر 1983 سيءة السمعة، واتخذت من مايو مطية لتصفية خصومها، كما اتخذت من قبل في النصف الثاني من الستينيات، الطاءفية مطية لتصفية الحزب الشيوعي، من البرلمان والحياة السياسية! هذا السلوك السياسي الانتهازي للجبهة الاسلامية، الذي دفعها لتمكين نفسها بالتحالف مع مايو، هو السلوك نفسه الذي دفعها للتحالف مع القوى الطاءفية ابان الديموقراطية الاخيرة، التي عملت على تقويضها، للانفراد بالسلطة، لتحقيق اهداف التمكين السياسي والاقتصادي، وهو السلوك نفسه الذي دفع بالترابي، للدخول في تحالف (قوى الاجماع) في السنوات الماضية، والخروج عنه مؤخرا، للعودة الى قواعده سالما، ((مبشرا بنظامه (الخالف) الذي عليه الناس يختلفون؛ اختلافهم على نظام (التوالي) فيما مضى!! فالرجل مغرم بغموض الالفاظ التي لا تؤدي معنى محددا، لذر الرماد في العيون، واخفاء ما يزمع فعلا على عمله!)) بعد ان حقق اهدافه في تمييع الفعل السياسي لهذا التحالف (الاجماع)، وفك الحصار عن النظام، الذي صنعه بنفسه عبر سنوات طويلة! فهذا السلوك هو اعادة انتاج لانقلابه، على الأحزاب التي تالف معها، إبَّان فترة الديمقراطية الثالثة، في ليلة ال 30من يونيو 1989 للانفراد بالسلطة، بعد خداع الجميع في شهور الانقلاب الاولى، بان لا صلة له او للجبهة الاسلامية بهذا الانقلاب، بل ذهب سجينا مع قادة القوى الاخرى (اذهب انت الى القصر رءيسا وساذهب انا الى السجن حبيسا) .. لقد ظلت الجبهة الاسلامية كالحرباء، تغير جلدها من ان لاخر، فمنذ الخمسينيات عندما كانت (جماعة الاخوان المسلمين)، مرورا ب(جبهة الميثاق) وصولا لمرحلتها الحالية ك(وطني-شعبي)، نجدها تقلبت في اسماء عديدة، فتغيير اسمها من ان لاخر، احد السمات الاساسية التي ظلت تسم مسيرتها العامرة بالجراءم بشتى اشكالها وانواعها. لقد ظلت الجبهة الاسلامية او الترابي، يمارس الخداع ويطمح للانفراد بالسلطة منذ انقسم على شيوخه (الاخوان المسلمين)، وفرز عيشته، الى ان ادى اكبر خدعة بانقلاب 30 يونيو 1989، ما يثير الاسءلة التالية: ما الذي يمنع ان تكون المفاصلة التي تمخضت عن وطني وشعبي هي خدعة اخرى؟ وما الذي يمنع ان يكون وجود الرجل، داخل قوى الاجماع كخدعه المعتادة؟ وهل فعلا انقلاب 30 يونيو 1989 هو خدعة انطلت على الطاءفية؟ ام انه كان باتفاق تام بين الترابي و الطاءفية؛ التي هي شريك اصيل في هذه الخدعة، ولم يات الاوان بعد ليخرج (ما جرى فعلا خلف الكواليس) بخصوص هذا الامر الى العلن؟ وهل شراكة حزبي الامة والاتحادي؛ باجزاء من حزبيهما مع النظام، هي (شراكة خفية) كما نزعم، ام انها فعلا، تعبير عن موقف يتعلق بالافراد الذين شاركوا ولا يتعلق بالحزبين الطاءفيين، باعتبار ان الاتحادي كل جزء منه يدعي انه هو الذي يمثل الحزب دونا عن الاخر، وهوهنا لا يختلف عن الامة كثيرا؟ اوليس كل ما ظل يدور، منذ اواخر الديموقراطية الاخيرة، حتى الان مجرد توزيع ادوار فحسب، حملت فيه الجبهة الاسلامية الوجه الخفي القبيح للطاءفية، بتنفيذ مشروعها الاسلاموي العروبوي القبيح، الذي ترتب عليه فصل الجنوب، واشتعال الحروب في الهامش، واستشراء الفساد في المجتمع والدولة،وانهيار تام للاقتصاد؟ الا يتطابق مشروع ومصالح الجبهة الاسلامية، في جوهره مع مشروع ومصالح الطاءفية؟ ولا يمكن ان يلتقي باي حال من الاحوال، مع المشروع والمصالح الوطنية، لسودان المواطنة وحقوق الانسان والتنمية والسلام، والتوزيع العادل للسلطة والثروة؟ والان بعد ان ادى الترابي دوره داخل قوى الاجماع، ما هي طبيعة الدور الذي يريد المهدي لعبه في تحالف نداء السودان، (طالما نظر الرجل للقوى المكونة للجبهة الثورية، والتي هي جزء من نداء السودان الان، على انها قوى اثنية تنطوي على اجندة عنصرية، فهل اصبحت بنظره فجاة غير اثنية او عنصرية؟ وهذا السؤال يحيلنا الى الدور الذي لعبه الرجل في ارباك عمل التجمع، اثر (تهربون) الشهيرة، هل هرب الرجل فعلا وقتها؟ ام كان يلعب في دور رسم بعناية، ترتب عليه في النهاية اضعاف التجمع وهلهلته، وعودته اخيرا بخفي حنين؟ نواصل 11 اكتوبر2015 [email protected]