خارطة طريق إماراتية شاملة لإنهاء أزمة «الفاشر» شمال دارفور    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    أبل الزيادية ام انسان الجزيرة    الفاشر ..المقبرة الجديدة لمليشيات التمرد السريع    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    نائب وزيرالخارجية الروسي نتعامل مع مجلس السيادة كممثل للشعب السوداني    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البشير وأزمة الخطاب!!
نشر في الراكوبة يوم 27 - 05 - 2016


بسم الله الرحمن الرحيم
البشير قد يكون من الحكام القلائل، الذين لا يفتقدون مهارات القيادة وأصول الحكم وفنون الإدارة فقط! ولكنهم ومن خلال أقوالهم وممارساتهم المفارقة للمنطق البسيط ومستلزمات التحضر، يسيئون لمتطلبات الحكم ووظيفة السلطة ومسؤولية القيادة. وبكلمة محددة، نموذج البشير يمتهن معني القيادة ويبتذل وظيفة السلطة، قبل أن يلغي وجود السياسة والمجتمع والدولة ذاتها، مرة واحدة! أي عندما لا يتحول الي الدولة ويختزل الدولة في ذاته وفقا للتعبير الشهير فحسب، وإنما ترتفع مرتبته للمحورية الكونية، التي يستتبع المساس بقداستها، إضطراب في دولاب الناموس الكوني او توقف عجلة الزمان عن الدوران. ولكن أن يعدنا بعد هذا الوهم الضاغط علي أعصاب الدولة وأمشاج المجتمع، بإستمرار هذا الوباء السياسي والعناء الإقتصادي والغباء القيادي، حتي مشارف العام ألفان وعشرون، فهذا ما يثير الألم والغضب عوضا عن الإشفاق والضحك المبكي! ولكنه بهذا السوء أفضل من أن يعدنا بالصعود لسطح القمر، لأنه عمليا يعني الخسف بنا لسابع أرض. وللأسف يبدو أن إخواننا في شمال الوادي يسيرون علي ذات الدرب، المفضي الي العنت المعيشي والكوارث الوطنية! وكأن المؤسسة العسكرية التي تضخ مثل هذه النماذج الكارثية، تستبطن نوازع التوحش وتمتح من قانون الغاب، الراسخ في بنية الكائن البشري، ما قبل إبتداع قشرة الحضارة وقوانين التمدن الهشة! أي هي جهاز ماضوي بامتياز، مدار عمله او طبيعة عقيدته تتمحور حول الغرائز! وتاليا، يستحيل في حقها والأصح حق منتسبيها، القدرة علي البناء او التعمير والقابلية للتحضر، قبل أن يفتقدوا نزعات التقدم فطريا! وعليه، هي غريبة علي بيئة السياسة كمستخلص مدني، قبل أن يستحيل في حقها/هم إستيعاب طاقة مرونتها وممكنات معالجاتها، والأهم الحفاظ علي غاية الحكم وسلامة الوطن و كرامة المواطنين! ولذا أقصي ما يمكن أن تقدمه/يقدمونه للحضارة، هو المحافظة علي قشرتها حتي تستوي ثمرة، قابلة للحياة وقادرة علي تجديد ذاتها ذاتيا. ولكن الأكثر أسف، هو وجود طبقات سياسية تقوذ لذات الدرب او الدوامة التسلطية، التي يعد جوفها بإبتلاع أردوغان، بعد أن جذبت بوتين وقبله الامام الخميني، وكل من لف لفهما علي محاور الطغيان والنزعات الإستبدادية، سواء في الممارسة السلطوية او التطلعات الإمبراطورية! مما يدل وبما لا يدع مجالا للشك، أن القيادة مسألة ليست حساسة فقط، ولكنها خطيرة أيضا، وتترتب عليها نتائج، إما عظيمة في حالة أداءها علي وجهها الأكمل ومن جانب أصحابها الحقيقيين، او وبيلة في حالة الإستيلاء عليها غدرا او حيلة، والتلاعب بها من جانب الأدعياء والمتسلطين! والذين يفتضح أمرهم منذ أول وهلة او ظهور او قرار، وبعدها يبدأ مسلسل التعايش الإكراهي من ناحية المعترضين وغير المقتنعين، والتوافق والتواصل النفاقي من جانب المطبلين وحارقي البخور، والذين تنشط غرائزهم وتزدهر أنشطتهم في مثل هكذا أجواء سامة او بيئات ملوثة، توفرها تلك الجروح السلطوية المتقرحة علي جسد الوطن المريض. وبما أن السلطة هي أكثر وظيفة مؤثرة علي سلامة الوطن ومصالح المواطنين، فتاليا المساس بشرعيتها وحيادها يستجلب نتائج عكسية تماما! ليس علي السلطة وتغيير طبيعتها فحسب، ولكن بقدر أكبر علي فضاء الدولة وتماسك المجتمع! وذلك نتيجة للتماهي الإعتسافي ما بين إنحراف السلطة وفساد السلاطين وبين إعتبارية الوطن ومطالب المواطنين! أي عندما يتحول الفساد والإستبداد بقدرة قادر، الي مصاف المصالح الوطنية العليا، رغم أنف الواقع وحقائق التاريخ وإحتياجات المواطنين المقموعين؟! وبإختصار شديد، جزء أساس من محنة الدكتاتور، هو خداع الذات وإحالة نفسه الي مرجعية عليا للوطن، ومن باب أولي بقية المواطنين (الرعايا!) وتاليا، كل ما يصدر عنه هي حِكم ومشاريع صالحة لكل زمان ومكان؟! وأعتقد إن لم أُجزم، أن البشير يتوهط بارتياح علي قمة هذه المرحلة/المكانة! ولذا يأتِ تصريحه الأخير بالتنازل الطوعي عن السلطة، نهاية دورته الإنتخابية؟! بمثابة دلالة باهرة علي عزوفه عن السلطة، رغم حاجة البلاد لحكمته وجهوده الإبداعية! أي رحيله الطوعي الموعود، يأتي غصبا عن ما يملكه من مؤهلات وقدرات سحرية غير محدودة تقبع في جعبته الملئ بالمفاجآت، قبل أن يكون خصما علي لياقته الصحية والعقلية السوبرية، التي تزداد نشاطا وشبابا وألقا مع مرور الأيام؟! أي رحيله خسارة للوطن لا تعوض من ناحية، ونكبة للسطلة وضرية موجعة لفنون الحكم من ناحية مقابلة؟! بمعني آخر، البشير يسعي للتلويح بالكيكة وإبتلاعها في آن واحد! أي الإستمتاع بمباهج السلطة المطلقة (كجانب مادي) وكذلك الإستمتاع بالجانب المعنوي، الذي يستتبع التخلي عن السطلة طواعية، كسلوك يتصف به القادة العظام؟! بمعني، البشير لم يفسد السلطة بالإستيلاء عليها غدرا فقط، ولكنه يسعي للإفساد بمفهوم او معني ومردود التنازل الطوعي! أي بعد الإنتهاء من الفساد السلطوي المادي، دخلنا علي مرحلة الفساد السلطوي المعنوي، كبداية لإستكمال مخطط الدمار السلطوي الشامل. وكل ذلك رغم، أن المؤشرات تجمع او تجعل مسألة/فرص إحتمالات التنازل الطوعي عن السلطة معدومة كليا، سواء بعد نهاية الدورة الإنتخابية او حتي نهاية القرن! والسبب ليس المحكمة الجنائية فقط، ولكن الأبعد من ذلك، أن السلطة وتأثيرها وجاذبيتها او سحرها، تتخلل مسام البشير وتحتل منه مجري الدم؟ لا لشئ إلا لأنها تمنحه قيمة كبري لا يمتلك مقوماتها، فوق إمتناع مؤهلاتها للتجاوب مع إمكاناته الفردية المحدودة. كما إن الإستمرار في السلطة لا يقلل من الرغبة فيها، ولكن العكس هو الصحيح، وهذا في حال لم تتحول الرغبة الي حالة مرضية او نفسية إدمانية! أي البشير والتسلط وجهان لعملة واحدة، ولا فكاك منها، إلا بالتخلص من العملة بكامل وجهيها.
وللتدليل علي ذلك، يمكن الرجوع للهجوم العنيف الذي شنه البشير علي حاملي السلاح، ووصفهم بالحالمين والواهمين، وذلك قبل فترة قصيرة، او تحديدا أواخر الثلث الأول من شهر مايو الجاري! فلغة الخطاب بل لغة الجسد والحركات كما أشار البعض، لا تعكس إلا أحد أطوار الدكتاتور في مراحله الختامية! أي سرعة الإنفعال والغضب وكثرة التهديدات والإحساس بدنو الخطر او الأجل السلطوي لا فرق. ومعلوم أن أفضل وسيلة للتخلص من التوتر الذي يلازم الدكتاتور المأزوم، هي نقل أسبابه للخصوم! وخصوصا الخصوم الأخطر علي السلطة (الحركات المسلحة) وتاليا دمغها بالأحلام والأوهام كمسببات أساسية لتوتر الدكتاتور؟! والدليل، إن الحركات المسلحة لا تملك سلطة أساسا، حتي تؤرقها الأحلام او يشغل بالها وساوس الأوهام؟ والأهم أن من يستمتع بالسلطة وأمتيازاتها غير المستحقة هو البشير وزمرته، ومن ثم هم أكثر هما في كيفية المحافظة عليها، إضافة الي طغيان أضغاث أحلام الصحيان، بالتخلص من الخصوم ضربة لازب، وتاليا إستتباب أمر السلطة دون منغصات! وهو الشئ المستحيل شكلا ومضمونا، والسبب أن اللاشرعية ستظل طوال وجودها مؤرقة بمسألة الشرعية، أي كقدرها الذي يلازمها او شبح ظلها الذي لا يفارقها! أي مأساة اللاشرعية أنها يكمن في جوفها سؤال الشرعية كمسألة وجودية! وبتعبير واضح، مكتوب عليها الصراع الأبدي من أجل إثبات الشرعية، وعليه هي غير معنية أصلا، لا بترقية الحكم والدولة ولا بتنمية المواطنين والمجتمع، إلا كحاجات عرضية؟!
ودليل آخر علي أن البشير يحاول نقل أزمته الخاصة الي المعارضين، هو حديثه عن حلم المتمردين بالإنتفاضة ضد حكومته تعرض لإنتكاسة جديدة (للواهمين والحالمين) الذين يديرون معركتهم ضد الوطن من فنادق باريس. وفي كل هذا إشارات واضحة، علي أن البشير يؤرقه أيضا همّ الإنتفاضة، وتاليا علاج هذا الهمّ يتمثل في تصوير الإنتفاضة ضده، كقضية خاسرة او رهان مستحيل، او أقلاه أصبحت كرت محروق في يد المعارضة، أي كسلاح أثبت فشله أكثر من مرة! أي يحاول بث اليأس في هذه الوسيلة والقنوط من مجرد المحاولة؟! والمقصود بذلك ليس المعارضة وحدها، ولكن الأهم منها، المواطنون الذين تقع علي عاتقهم مسؤولية التضامن والإطاحة به! وفي هذا أكبر دليل علي أن مسألة الإنتفاضة، هي أهم سلاح ضد البشير، وأكثرها رعبا وإرهابا لسلطته، وقضا لمنام أتباعه! وذلك ليس بسبب أن الوحدة الجماهيرية هي قوة فحسب، وإنما لدلاتها علي نزع الشرعية والرفض العارم للبشير وطريقة وصوله للسلطة.
ويمكن ملاحظة ذلك بسهولة (مزيد من الأدلة) أيضا، في الربط بين سلطته والوطن، أي التعدي علي سلطته هو تعدٍ علي الوطن! ولإستمراء هذا الربط الإعتباطي، يرد إكليشيه المعارضين من فنادق باريس، مما يشي بالعمالة والإرتزاق من ناحية، وبروزه كمدافع عن الوطن ضد الخارج وأعوانه الخونة، من ناحية مقابلة؟! ولكن السؤال الذي يفرض نفسه، بعد إفتراض صحة وهم معارضة الفنادق، الذي يتغافل عن أسباب وجودهم في الخارج أصلا، ويتعامي عن الأوضاع الصعبة التي يكابدها المعارضون في الخارج، او أقلاه أيام التواجد في أسمرا والجنوب وغيرها من البيئات الصعبة والملامسة حدود الهلاك؟! هل يدير البشير وكبار أعوانه معاركه ضد مواطنيه (بعد أن عزَّت مواجهة الخارج الذي لا يشكل خطر علي السلطة وهذا في حال لم يتحالف معها ضد مجتمع الداخل!) من ساحات المعارك، أو أقلاه من معسكرات الدروشاب والحاج يوسف وأمبدة وغيرها من المناطق، التي تعاني من نقص او إنعدام الكهرباء وتردي الخدمات بصفة عامة، وتتطيَّر بمجرد مقدم الخريف او حلول اوان الصيف؟! وهل الحياة التي يعيشها هو وأتباعه، تشابه حياة غالبية المواطنين في شئ؟ أم هي أقرب لحياة الملوك وترف الأباطرة وإستباحة ملاك الإقطاع؟ بل حتي رؤساء الدول المتقدمة والمرفهة، أعتقد أنهم يحسدونهم علي ما هم فيه، من نعم ورخاء مفتوح علي البذخ وليالي ألف ليلة وليلة ومنادمة هارون الرشيد؟! بل الملاحظ أن أغلب من يذمون المعارضين بسبة الإقامة في فنادق باريس والخارج، هم أنفسهم يقيمون في بيوت شبيهة بالأساطير، وهي محاطة بمحيط البؤس ومعاناة البؤساء؟! أي هو مسلك يندرج في نفس إتجاه، تكتيك رمتني بداءها وأنسلت، الذي يجيد تطبيقه أنبياء زمان التيه وآلهة الخراب؟!
والبشير في رحلة أزمته، والتي للأسف تحولت لأزمة وطن، كواحدة من إفرازات الإنقلابات والدكتاتوريات الكارثية، تبرز أيضا تناقضاته البديهية! فهو في جانب من حديثه عبَّرَ عن الإيمان بالسلام ونبذ الحرب والإقتتال، ولكنه وفي جانب آخر وبالتزامن، تحدث عن حسم المعارك ضد التمرد والإنتصار علي الحركات المسلحة في دارفور؟! ولكن ما فات علي البشير وأعوانه، حتي إذا صدق حديث إنتصاره علي الحركات المسلحة، وهو كما عهدناه كذوب (راجع كم الوعود السرابية التي منحها بكرم طائي ومازال سادرا في عطاياه!) او قضاءه علي التمرد بصورة نهائية، كما يشتهي! أنه لم يعالج جذور المشكلة الوطنية، وتاليا أسباب الحرب تظل قائمة، وتجددها رهين بتوافر الأدوات والوسائل او الظروف الملاءمة! وعليه ليس هنالك إنتصار او حسم نهائي، كما يتوهم البشير او ما يرفعه له مساعديه من تقارير مضروبة! الشئ الذي يؤكد أن البشير لم يتعلم شيئا طوال وجوده في سدة السلطة، أي ما يفوق الربع قرن ضاعت هباءً منثورا! وهي بطبعها ليست فترة كافية للتعلم فقط، ولكنها بدورها كانت مشبعة بالحروبات ومتخمة بالمعارك وأوهام الإنتصارات، بل وبتكرار أحلام حسم الإقتتالات عاما إثر عام! بمعني آخر، عدم التعلم لا يعود لطريقة الوصول الي السلطة الإنقلابية، التي تورث الغرور والإرهاب والتسلط والتشبث بالكرسي من أجل الكرسي فقط، ولكنه يعود في الأساس لإفتقاده القدرة علي إجتراح بدائل! أي الدكتاتور محكوم عليه (بإتباع نفس المناهج والأساليب والأدوات وتوقع نتائج مغايرة في كل مرة) كما في القول الشائع للبرت انشتاين في وصف الغباء، مما يبيح لنا وصف الدكتاتورية/الغباء بأنها عدم القدرة علي التلعم، بحجة علمها بكل شئ، وفي هذا مصدر كوارثها؟! ولكل ذلك، يصبح رفض الحركات المسلحة وحزب الأمة وغيرها من المنظمات والتنظيمات المعارضة والرافضة للحوار وخارطة الطريق الصادرة من الآلية الأفريقية (التي يبدو أن تعافيِّها من أمراض الطفولة/الترضيات وأزمة الإستبداد المستفحلة في مكونات أعضاءها، لم يكتمل بعد! وأننا تسرعنا في منحها الثقة التامة او التفاؤل المستعجل بدورها وإمكاناتها في فترة سابقة! مما يعني أن الثقة في الإستبداد او احد مكوناته، هي ثقة في الغدر والخيانة! قبل ان تشرع باب الإحباط والأحلام السراب؟!) هو رفض مبدئ، وحنكة سياسية، تتناغم مع رفض التعامي المتعمد عن مسببات الأزمات التي لم تعالج، والجذور التي لم تُنبش وتُخرج الي ظاهر الجدل الشفيف! بمعني آخر، البشير/الحكومة هما مَنْ يتوجَّب عليهما مراجعة مواقفهم، ومخاطبة جذور المشاكل بما يناسبها من حلول تستجيب لحقائق الواقع ومتطلبات الوقائع! وبتعبير واضح، إعادة الإعتبار لمسألة ديمقراطية السلطة وتوفير وتوزيع الخدمات للمجتمع ومركزية المواطن الفرد في الدولة وأنشطتها! أي تهميش المراكز ومركزة الهوامش لو جاز التعبير! والبداية الحقيقية لكل ذلك، هي مسارعة البشير بتقديم إستقالته وحل سلطاته/الحكومة بجميع مكوناتها! والدعوة لتشكيل حكومة إنتقالية، بجميع السلطات ومن كل المكونات السياسية والمناطقية! وليس إنتظار العام الفين وعشرين، لنسمع بعدها الأسطوانة الدكتاتورية المشروخة بالأكاذيب والوعود الجوفاء، أن الظروف غير ملاءمة للإستقالة؟ علما بأنها لم تكن مناسبة يوما ولن تكون مناسبة دوما لأي دكتاتور! وكل هذا في حال تبقي وطن متداعٍ كشأن وطننا المتهالك حتي ذاك الزمان! ويا لحسرتنا مع المستقبل وفرصه، ونحن نتحدث عن مجرد بقاء وطن كمساحة متوارثة، والعالم مشغول بهموم تطور تسابق الضياء وطموحات ريادة تعانق السماء؟!
أما الأغرب مما ذكر أعلاه، أن تتم كل هذه الأحاديث البشيرية او السفسطائية لا فرق، بمعية او في حضرة المؤتمر العام لإتحاد نقابات عمال السودان (رحم الله الشفيع وصحبه الميامين الذين منحوا النقابة مكانة والعمال هيبة والعمل قداسة). وكأن حال العمال والأصح ما تبقي من عمال، بعد تحطيم كل أسباب العمل من مشاريع ومصانع ومؤسسات، يحتاج لمزيد من البؤس والإحباط؟ فغير إن هذا الخطاب المأزوم لا يمس مشاغل العمال المهنية وهمومهم الإقتصادية بحال من الأحوال! ما عدا حمله النقابة علي التضاؤل والمسخ الي مجرد وسيط، لحمل التعبئة الحكومية البشيرية التي طالت كل القطاعات! إلا أننا نجده كذلك، يمثل حالة هروب الي الأمام، من دفع إستحقاقات العمل وحقوق العمال، كجزء أساس من الإستحقاق العام لكل المواطنين. والخطاب ومن خلال محاولاته المستميتة لتوظيف العمال في معاركه السياسية والحربية، يتجاهل الإساءة التي تلحق بالعمال حاضرا، وبقضايا العمل والعمال مستقبلا! والأسوأ أن هذا الإستغلال لم يكن بصورة مستترة، مما يخفف من وطأة الواقعة المخجلة، او يتيح فرص للتنصلات المستقبلية! ولكنه كان في غاية السفور وهو يوظفهم، إن لم يجاهر بتوظيفهم، في معاركه السياسية والعسكرية ضد المناوئين! ولتمرير هذه الأغراض الخبيثة، كان لابد من تقديم مدح إنشائي يطرب المجتمعين في القاعة، من أمثلة وصف العمال كأيادٍ تبني وتحرك الطاقات وتزيد الإنتاج؟ وتساعد علي إعادة الإعمار في المناطق التي طالتها آثار الحرب العدوانية من الحركات المسلحة! هل بعد كل هذا لا يصح التساؤل، هل هذه نقابة عمال أم إعادة لبرنامج ساحات الفداء؟!
ولكن في الواقع وبعيدا عن النقابة التابعة، تظل شريحة العمال، هي أكثر الشرائح تضررا من نظام الإنقاذ! وذلك ليس بسبب تشريدهم وتدمير بيئات عملهم ومناطقهم وتدني أُجورهم فقط! ولكن في الأساس لأنهم شريحة مقصيَّة إبتداءً ضمن المشروع الراسمالي الطفيلي! أي المنتج الأصل او النسخة الإقتصادية للمشروع الحضاري الإسلاموي، الذي يتبناه نظام الإنقاذ؟ وهو بدوره مشروع إقتصادي/إستثماري، طابعه البحث عن الأرباح العالية والجني السريع للمكاسب السهلة! أي الثراء الفاحش، في أقصر وقت، وبأقل التكاليف والخسائر، وبكل الوسائل (ليست لديه عوائق لا وطنية ولا إنسانية ولا أخلاقية ولا حتي دينية يفترض أنها مصدر تميزه عن المشاريع الأخري)؟! بمعني، المشروع الحضاري الإسلاموي هو في حقيقته، حصيلة طبقة وسطي مستحدثة! ورغم أنها مستجدة (او بسبب كونها مستجدة) إلا أنها نازعة لإستملاك وسائل الإنتاج وإحتكار الثروة! متوسلة في ذلك الدين كراسمال سيطرة ثقافي إجتماعي! والسلطة كأداة سيطرة سياسية ودفاعية! ولا يصدف أن يكون مسلكها عنفي إرهابي، بحيث يحمي إرتكابات خسيسة ويغطي علي تجاوزات منكرة، يصعب إحتمالها وأحيانا تصديقها؟! والحال كذلك، يصبح العمال ليس غرباء، بل وفي أفضل الأحوال يرغمون علي قبول الفتات فقط! ولكنهم في الواقع يعتبرون زوائد دودية، غالبا ما يتم إستئصالها، من علي جسد هذا المشروع الحضاري الإستثماري، والصحيح المسخ الإستعلائي المتوحش الطبقية! وعليه، يصبح هذا المشروع مناقض لمصالح العمال جذريا، بل حتي وجوديا! ناهيك من أن يكون لهم نقابة فعَّالة في ظله، او تمتلك المساحة والزمن والأدوات، التي تمكنها من الإلتفات لمصالحهم او التلبية لمطالبهم او مجرد الإستماع لأنينهم وشكواهم وهواجسهم! إلا في شكل إعلامي دعائي مدفوع الأجر مسبقا؟! بل هذا المشروع وزيادة في إنتهاك كرامة العمال وإحتقارهم، عيَّنَ علي رأس نقابتهم، إنقاذوي بدرجة بروف سنينا عددا! وهو يصول ويجول بسيف النقابة، ولا يفعل أكثر من طعنها في ظهرها، بتسفيه همومها وتزوير قضاياها، وإغراقها في التفاصيل المملة والوعود الخلب والأماني الكاذبة! وكأن دوره الأساس، هو منعها من القيام بدورها، وإبطال مفاعيل إمكانات مواجهتها للنظام! خصوصا بعد إستحداث قانون نقابي جديد، خلط تكوينها وناقض بين مكونات جسدها، وجعلها لقمة سائغة لإختراقات الإسلامويين، ولتطبيق سياستهم المعهودة (فرق تسُد) بين جوانحها! مما أذهب بريح تماسكها وفتت من عضد قضايها وطابعها المهني والوطني! أي أصبحت النقابة والعمل النقابي مغنم، بعد أن كان مغرم، لا يطيقه إلا أولي العزم من الشيوعيين الراسخين في النضال؟! ولا نعلم الآن من رئيس هذه النقابة الهلامية، التي ينعم قادتها بالديباج والبدل او الجلابيب والملافح الناصعة البياض، كرؤساء أندية القمة، بدلا عن الزيوت والعرق واليونيفورم! وإحتمال كبير يمتلكون عدد وافر من العربات والزوجات والعقارات، كعادة إسلاموية طفيلية إدمانية! في الوقت الذي تلتحف فيه قاعدتها السماء وتفترش الأرض، وتعاشرها الهموم والمعاناة، ويتهددها سيف الفصل والتشريد كل الأوقات. وكما سبق الإشارة، فهذا المشروع لا يكترث لمصلحة أحد او جهة او طبقة، او يهمه إستقرار وطن او سلامة مجتمع او يقف عند حدود مبدأ أو تهز حساسيته ولا نقول ضميره قضية؟! والسبب أنه مشروع مكرس لخدمة مجموعة/جماعة محددة! وتاليا كل مجهوداته بل حتي تصميمه، موجه حصريا لحماية مكاسب وأمتيازات المنظومة الإنقاذوية المافيوية! وطريقة وضع ميزانية الدولة العامة تؤكد ذلك، وبما لا يدع مجالا للشك او الجدل او المغالطات العقيمة، أو حتي مساحة موضوعية لإبتلاع الشعارات الفارغة التي يكشف زيِّفها الواقع مباشرة، مثل (غلوطية) زيادة الأجور التي تطارد الأسعار سرابا! ووعود التنمية والرخاء الجوفاء التي تطرق الأسماع سفاهة (كنغمة حا حاءات حميد في الجابرية والبشير في نص الأستاذ شوقي بدري). أما العمال إذا ما أرادوا البحث عن مصالحهم الحقيقية، فالمؤكد أنها غير موجودة، لا في خطاب البشير المأزوم ولا في مشروعه الكارثي! ولكنها تستقر في حضن الدولة الديمقراطية القادمة، وضمن فصيل المعارضة الساعية للتغيير. وهي تتجسد في نقابة حرة وديمقراطية ومسؤولة، تستصحب مع حقوق العمال، أوضاع البلاد وقدرتها علي تلبية الإحتياجات! وكل ذلك، في ظل وجود مشروع طموح يؤسس لبناء وطن حديث.
وفي إتجاهٍ آخر، نأتي لواقعة تقدم البشير بطلب للحصول علي تأشيرة دخول للولايات المتحدة، لحضور الإجتماعات القادمة للجمعية العامة للأمم المتحدة! علما بأنها ليست المرة الأولي، حيث سبق وأن تقدم بطلب كهذا ورفض من جانب الولايات المتحدة، التي أنكرت الدعوة التي تلقاها للحضور من الأساس؟ وبمنطق او لغة غير دبلوماسية، هو متطفل علي قمة الإجتماع الدولي؟! وليس هنالك سبب يدعونا لتكذيب الولايات المتحدة، بل علي العكس، هنالك عديد الأسباب التي تجعلنا نمحها درجة عالية من المصداقية! وغير النهج الديمقراطي الذي تتبناه، والذي يفرض علي حكومتها درجة عالية من الشفافية والمسؤولية العامة، فهي تتعامل مع نظام لا يكذب ويتحري الكذب فقط، ولكنه يبرره كنوع من الحيل والخداع المحمود، فوق أنه يضمر كثير من الشرور وسوء النية خلف خطاباته المداهنة للخارج؟! ولكن الأكثر أهمية، بروز واقعة، أنه مطلوب للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية، علي خلفية إتهامات بجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية؟! وهنا نصل لمربط الفرس، ليس فيما يخص شأن الخارج، ولكن شأن الداخل أيضا؟ أي الغرض الأساس من كل هذه المحاولات الدبلوماسية العبثية، والفرقعات الإعلامية الصبيانية (تحميل أمريكا/حائط المبكي مسؤولية الرفض والحرمان!) من جانب الحكومة، هو التغطية علي الطعنة النفسية، التي تلقاها البشير من المحكمة الجنائية الدولية! ومصدر الطعنة في إعتقادي لا ينصرف للنواحي القانونية او الكرامة الوطنية او الهيبة الدبلوماسية، التي لا مكان لها في وعي الجنرال المدقع! ولكن السبب يعود لمنطق يكاد يكون إعتباطي، بميزان العلاقات الدولية وأبجديات العلوم السياسية! وإلا كانت ردة الفعل مختلفة وتراعي المصلحة العامة للبلاد؟! والمنطق المخجل المقصود هنا، هو منطق والأصح مفهوم (الرجالة بالمعني البلدي!؟) فالبشير الذي صوره الإعلام المحلي التابع للسلطة ب(الأسد النتر وفارس الحوبة ..الخ) من الأوصاف علي إيقاعات الحماسة ودقات النحاس، والمراد بها نفخ البشير القابل للنفخ (والمانح للعطايا علي قدر المدح!) وما يستتبع ذلك التضخم من امتيازات للمادحين؟! ومع طول عهد المدح وكثرة أوصاف الفخر، التي تمنح له من دون ضوابط او حدود، ولا حتي مناسبات ذات أهمية! صدَّق البشير أنه فارس وبطل وأسد حقيقي؟! وبحكم قلة إستيعاب البشير لمسألة السلطة والحكم والقيادة، وما يلازم صاحبها من برتكولات وإحترام وإنسحاق من جانب البعض! تحولت هذه الصورة الشعبية للفروسية لواقع يسعي بين الناس، وبكل ما تحمله هذه الصورة الميلودرامية من شعبوية في الألفاظ والمسالك، او ردات الفعل تجاه الأحداث والدول؟! وإنطباق هذه الصورة الزائفة في ذهن البشير قبل الشعب وغصبا عن الحقيقة! فاقم من صدمة المحكمة الجنائية الدولية، وما تبعها من حرمان وحصار، مما أصاب هذه الصورة الوهمية في مقتل، ومرغ بصاحبها التراب! خصوصا عندما تحولت رئاسة المحكمة الجنائية لإمرأة (ذات مرتبة دونية سلفا في وعي الفروسية الشعبية البائد!) ودخول الدول الغربية علي خط المواجهة (كدول كافرة وذات ثقافة خليعة!). بمعني المحكمة الجنائية شكلت لحظة كاشفة او لحظة مواجهة لحقيقة الفارس الخشبي، الذي صممته قصائد المدح مدفوعة الأجر، وهذا مكمن جرحها وإحراجها وكرهها المقيم، وما دون ذلك تفاصيل باهتة لا قيمة لها؟! والحال كذلك، فالبشير لا يعنيه إجتماع الأمم المتحدة من قريب او بعيد، وليس لديه ما يقدمه في هذا المحفل العالمي، سوي إحراج السودانيين والتمثيل ببلادهم ودبلوماسيتهم بين الشعوب (كأنها لا تكفينا فضائح الداخل!). ولكن ما يعنيه تحديدا، تصوير الأمر وكأنه تحدي دول العالم وأمريكا علي وجه الخصوص! ومردود ذلك ليس علي شعبيته والهتاف الذي سيجده من وكلاء صناعة الجماهير/ية المصطنعة في الساحة الخضراء فقط، ولكن قبل ذلك، علي تجميع شتات صورته المهشمة أمام مرآة الذات، وكرامته المبعثرة بين الشعوب والدول، كفارس يحارب طواحين الهواء داخل قصره المنيف حصرا، ووسط جنوده في قلب القيادة العامة؟! ولكن ما فات علي البشير، والمؤكد أنه لم يفُت علي معاونيه الدبلوماسين، الذين يجارونه في أوهامه حفاظا علي مناصبهم وخوفا علي أمتيازاتهم؟ أن الرفض لم يكن للدولة السودانية، رغم ما فيها من بلاوي وكم المحن التي تمسك بتلابيبها، بدلالة إشتراك السودان بإستمرار في هذه التظاهرة الأممية، وبغض النظر عن مكونات البعثة! ولكن الرفض كان لشخص البشير حصريا، بوصفه متهم وهارب من العدالة الدولية! وتاليا، من الراجح أن وجوده لا يحرج المنظمين فقط، ولكنه يطعن في قيمة المنظمة ذاتها! بل أعتقد أن البشير نفسه إذا سُمح له بالمشاركة، كانت مصيبته ستكون أعظم (وهذا ما يتستر عليه الدبلوماسيون الأنقاذيون في حضوره، وهم يحمدون الله في سرهم علي رفض طلب التاشيرة، رغم تأكدهم من الرفض مسبقا!) وذلك بسبب الرفض والإعراض الذي كان سيجده من معظم ممثلي الدول الديمقراطية، والذين بدورهم يعلمون معني إحترام القوانين ومغبة إنتهاكها، وخطورة التقرب او مجرد الإقتراب من شخص مطارد علي ذمة جرائم علي هذه الدرجة من الخطورة! أي البشير شخصية منبوذة دبلوماسيا قبل أن تكون مطاردة دوليا! وما حضوره هكذا محفل عالمي وذا تركيز إعلامي، إلا فرصة للتشهير به وبجرمه وببلاده. أي البشير في كل الأحوال هو بين نارين، فمشاركته تجلب له السخط والإحتقار في الخارج! وعدم مشاركته تصيبه بالإهانة والتصغيير في الداخل؟! ويا له من موقف يستعصي قبوله علي الفرسان، حتي وإن كانت الفروسية من طينة البشيرية الورقية، المصنوعة من دماء الضحايا البسطاء وتتستر خلف الأجهزة الأمنية وقوات الدعم السريع! والأمر المؤكد في كل الأحوال، وكما سبق الإشارة إليه، إن البشير لم يتعلم من طلباته المرفوضة السابقة، وطلعاته الجوية المحفوفة بالمخاطر لدول الجوار الصديقة، وهروبه من مطارات دول عديدة، في جنح الظلام، بعد التسبب في إحراج المضيف وتعريضه للمساءلة أمام القضاء في الداخل والتنديد من الخارج؟!
وفي الحقيقة مسلسل مطاردة البشير من مطار الي آخر ومن سفرية الي أخري، ما كان له أن يستطيل كل هذه المدة! لو كان للمحكمة الجنائية الدولية، وسائل ضبط وإحضار، شأن المحاكم العادية؟! وقد يكون هذا الكساح او السلحفائية في أداء المحكمة الجنائية الدولية، ليس سببا في إضعاف دورها والنيل من مصداقيتها فقط! ولكنه يجعلها مصدر تشكك، كمطية للدول الكبري! أو أداءة إنتقائية عند القيام بواجباتها! وهو الشئ الذي يطعن في حياديتها! وتاليا إحترامها او مجرد قبول أحكامها بضمير مرتاح؟! أما الأسوأ من كل ذلك، أنه لو كان للمحكمة الجنائية الدولية سلطة فاعلة علي كل المعمورة! لمنع ذلك حدوث الإنقلابات وما يعقبها من إرتكابات وجرائم ضد الإنسانية وحقوق الإنسان أولا. وثانيا، لحد ذلك من الجرائم حتي في حال وقوعها. وثالثا، لأمتنع وضع الإفلات من العقوبة في حالة إرتكاب الجرائم. وفي كل هذا، ليس حفظ لأرواح البسطاء من التعدي، وحقوق الضعفاء من الإنتهاك المجاني فحسب، وإنما رد الإعتبار للضحايا والمظلومين، وهذا أقل ما يمكن تقديمه لهم ولأسرهم المكلومة. وفي وضع كهذا الأخير، لم نكن لنرَ هذا الكم الهائل من الضحايا في السودان وسوريا واليمن..الخ والعالم يتفرج علي هذا الدمار الحي او المباشر للأوطان والمواطنين! وكأن الأخيرين ينتمون لعالم آخر، غير عالم الحقيقة والوجود! أو أقلاه كأرقام جامدة في أحد أفلام هوليوود المرعبة؟! ولكن إذا وجد ذاك الوضع المطلوب، حقه في الوجود كإبن شرع! فمن أين لشركات السلاح وأرباحها الخرافية، وقنوات الأخبار وإعلاناتها المليارية، وكتابة المذكرات وعوائدها المليونية؟ منافذ للبيع ومساحات للترويج؟! وتاليا كيفية دوران ماكينة الراسمال، دون توقف، كنار جهنم، ولسان حالها يردد في خشوع، هل من مزيد؟! وعموما إذا إتفقنا او إختلفنا علي طبيعة اللحظة الحضارية الراهنة، فالمؤكد أنها لحظة يحكمها منطق الراسمال، وللأسف هو منطق لا قلب له؟!
آخر الكلام
علي المستوي الشخصي ينتابني إحساس بالخجل والعار، كلما رأيت صورة البشير علي الشاشة او سمعته يتحدث او نقل عنه شئ من وسيلة إعلامية او تواصل إجتماعية! وأتساءل بيني وبين نفسي حسرة، هل هذه البلاد ذاتها خرج منها المرحوم محمد أحمد المحجوب، وهو يقارع رصفائه من قادة وكبار رجالات العالم، ويتقدم بخطوات واثقة لترشيح نفسه لقيادة أكبر مؤسسة أممية! ولكن أعود وأقول، إن البشير يعكس صورة المنظومة الحاكمة، وليس بقية المواطنين والوطن، ولو أن التأثير لابد حاصل، إعتمادا علي درجة المقاومة وتوافر منافذ الفرار! أما البشير ومنظومته وما سبباه من دمار مادي ومعنوي في حق الدولة والمجتمع، فهذا ما يستعصي علي التقدير ويحبس عبرة التصديق او التعليق؟! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.