يبدو أن الذين تخوفوا من حدوث انتكاسة تعيد البلاد إلى محابس الحظر الاقتصادي مجدداً، كانوا أكثر قدرة - من غيرهم - على استقراء المستقبل، فقد تصاعدت أصوات الصقور الداعية إلى عدم مقايضة المشروع الأيدلوجي للمؤتمر الوطني، برفع العقوبات كلياً، منتصف العام الجاري. وظني أن ذلك يبرهن على أن الصقور ربما ينسفوا بارقة الأمل التي لاحت في فضاء السودان، بالتمترس الفج بشعارات لم تجلب للسودان سوى الخراب والدمار والعزلة السياسية، بل أنها وضعته في مصاف الدول الرخوة، بعدما كان ملء الأسماع والأبصار. المثير في القصة كلها، أن صقور المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، طفقوا يحذورن الناس من التنازل عن الشريعة الإسلامية، كما لو أنها كانت مطبقة. وكما لو أنها كانت حاكمة. مع أن راعي الضأن في الخلاء يعلم أن الرئيس البشير قال في خطاب مشهور في ولاية القضارف عقب انفصال جنوب السودان، إنه انتهى عهد الشريعة المدغمسة، وأنه حان الوقت لتطبيق الشريعة الصحيحة بعدما اختار الجنوبيون بناء دولتهم، وهو قول يبرهن على أن الشريعة لم تكن حاكمة، قبل الانفصال، كما أنها لم تحكم بعده، وهذا أمر يتبدّى للعيان دون الحاجة إلى تمحيص. ولذلك يبقى الحديث عن مقايضة الشريعة بالعقوبات تطفيف سياسي ليس أكثر، ومزايدة لا سند لها ولا منطق. وهو ما يحيلنا مباشرة إلى التحليلات التي ربطت رفع الحظر الأمريكي بقطع العلاقات بين الخرطوم وطهران، بجانب قطع العلائق الواصلة بين المؤتمر الوطني وحركة حماس الفلسطينية. وهذا بدوره يقودنا إلى الأحاديث القائلة بوجود رضا إسرئيلي عن حكومة الخرطوم، أسهم في رفع العقوبات الأمريكية عن السودان. الثابت، أن أصحاب هذا الرأي يستندون إلى الخبر الذي نشرته صحيفة "هارتس" الإسرائيلية والذي أشارت فيه إلى أن تل أبيب طلبت من واشنطن تحسين علاقتها مع حكومة الخرطوم، بعدما حدث شقاق معلن بينها وطهران. وفي هذا السياق فقد نقل موقع العربي الجديد القريب من الحكومة القطرية، أن قادة الكيان الإسرائيلي طالبوا نائب وزير الخارجية الأمريكي للشؤون السياسية توم شانون، أثناء زيارته لتل أبيب في سبتمر الماضي، بضرورة "تقديم بوادر حسن نية للنظام السوداني، بعدما قطع علاقته مع إيران وحماس، وبعدما تقارب مع الدول السنية المعتدلة وعلى رأسها السعودية". وظني، أن هذا يفضح خطوات الذين يسعون لجعل الشريعة كقميص عثمان، في سبيل استبقاء الديباجة الفكرية الخاصة بالمؤتمر الوطني، بعدما شرعت أيادي نافذة داخله في تمزيقها، لاسترضاء الأسرة الدولية، وصولاً لرفع العقوبات، مع أن تلك الديباجة لم تكن قائدة – يوماً ما - إلى تطبيق الشريعة إبّان سنوات حكم الإنقاذيين. الشاهد في القصة كلها، أن الحنين إلى العلاقة مع إيران لا يزال (يتاور) كثيرين داخل المؤتمر الوطني، أبرزهم الدكتور قطبي المهدي، الذي دعا إلى عدم قطع العلاقة مع حماس. ومع أن قطبي مُصنّف – عند بعض إخوته – بأنه قريب فكرياً من إيران، إلا أن حديثه يفسر حالة تململ الصقور داخل الحزب الحاكم من الانتقال السياسي والمذهبي والعقدي الذي قام به المؤتمر الوطني، والذي أسهم في رفع العقوبات. وما يدعم ذلك أن الأمين العام للحركة الإسلامية الزبير أحمد الحسن، قطع بأن الحكومة لن تتخلى عن شعاراتها، بل جزم بأنها ستعض عليها بالنواجذ. مع أن تلك الشعارات أفقرت البلاد وأضنت العباد..! الصيحة