عندما يتحدث الطائفيون -خاصة ممن يستندون في فكرهم وقراراتهم ومواقفهم إلى المرجعيات الدينية المقدسة- عن الديمقراطية، لا نستغرب من طبيعة هذه الفارقة بين من يربط سلطة الديني بالسياسي فحسب، وإنما نستغرب حقاً من جعل القرار الديمقراطي -الانتخاب أو الاستفتاء- مقيداً بمباركة وموافقة أو عدم موافقة الفقيه (سواء أكان ولياً أم غير ولي)!!. بما ينفي في النهاية الديمقراطية أو يفرغها من محتواها. هذه المفارقة ناجمة عن خلط غريب بين المفاهيم والقيم، وإذا كان بعض الإسلاميين مايزالون إلى اليوم يعتبرون الديمقراطية لعبة وبدعة لا تجدر بنا الثقة بها أو اللجوء إليها، فإن التيارات الجديدة والتي أحست أن لها بعض الكثرة العددية ارتأت في الديمقراطية وسيلة نافعة للوصول إلى الهدف كمطية للوصول إلى السلطة والتمكن من السيطرة على المجتمع، وبعد ذلك يمكن ركوب أي مطية أخرى، طالما أن الهدف قد تحقق، ولدينا في المثالين السوداني والإيراني خير مثال، فالأول وصل فيه الإسلاميون إلى السلطة عبر انقلاب عسكري أطاح بحكومة منتخبة ديمقراطياً، وقد رأينا كيف قادت سلطة الإنقاذ البلاد إلى الحروب الدائمة، والتي انتهت بكارثة تقسيم السودان على أساس طائفي. والمثال الثاني وهو المثال الإيراني حيث وصل الملالي إلى السلطة عبر ثورة، ولم يتم استخدام الديمقراطية إلا كآليات شكلية للسيطرة على المجتمع والتحول تدريجياً إلى ديكتاتورية دينية - عسكرية يحكمها تحالف من الفقهاء والحرس الثوري، أما ما بقي من الديمقراطية فهو مجرد هيكل عظمي بدون حياة والذي يمنع التداول السلمي على السلطة ويمنع أي حراك ديمقراطي مستقل عن سلطة وهيمنة الفقهاء، حيث يتم تكفير وتخوين أي حركة خارج هذا الضبط والربط العنيف الصارم، وفي ظل هكذا ''ديمقراطية''يتم إعدام المعارضين واعتبارهم جواسيس وعملاء للغرب، ومنع التظاهر الحر وحتى الأنشطة الثقافية والفنية والسينمائية وغيرها.. وإذا كنا نتفق على ضرورة جعل الديمقراطية في المجتمعات الإسلامية محاطة بسياج من القيم الدينية، فإنه لا يمكن القول بأننا ديمقراطيون ونتكئ في ذات الوقت على سلطة الولي الفقيه في الشأن السياسي على سبيل المثال بما يعني في النهاية انتفاء الإرادة الشعبية الحرة، أي الديمقراطية في أهم تجلياتها. لقد أصبحت الديمقراطية ضرورة ملحة لا يجادل في أهميتها اثنان، بل لا نغالي إن قلنا أن أي عمل سياسي أو تحرك شعبي أو تكتل حزبي إذا لم يضع في أولوياته ترسيخ قيم الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، فإنه لا يحظى بالقبول في ظل انتشار المصطلح الجديد القديم، ولكن من الواضح أن القليل منا يعود بالديمقراطية في مفهومها الليبرالي إلى جذورها الصحيحة والحقيقية، وهي أن الديمقراطية لكي تنجح وتنتشر فلابد لها من مدنية الدولة بمعنى الفصل بين الدين والدولة على مستوى المؤسسات وعلى مستوى الأنظمة والقوانين باستثناء ما له علاقة بنظام الأسرة لارتباطه بالضرورة بالمنظومة الدينية، حيث لا يمكن الأخذ بالديمقراطية دون الأخذ بمدنية الدولة فالممارسة الديمقراطية تعني ببساطة شديدة: المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار، وحتى تكون هذه المشاركة حقيقية وفاعلة لابد من توافر شرطين اثنين هما: المساواة الكاملة في الحقوق والواجبات على أساس المواطنة بغض النظر عن الفوارق الدينية والعرقية والسياسية والجنسية، والثاني هو ضمان حرية الفرد الكاملة في الكلام والتعبير والتنظيم والعمل السياسي، فالديمقراطية هي حرية الفرد في التعبير والكلام وهي حق الآخر في الوجود وحريته في العمل والتعبير.. هي المساواة بين الجميع دون تمييز، هي نسبية الحقيقة: أي الاعتراف المسبق باحتمال خطأ الذات الذي يقابله احتمال أن يكون الآخر على صواب... هي حق الأقلية في أن تتحول إلى أكثرية. فبدون هذين الشرطين لا يمكن القول بوجود ديمقراطية حقيقة.. لأن الدولة كيان مدني، وبهذا المعنى تكون ملكاً للجميع ومن أجل الجميع، وذلك أرقى أشكال الديمقراطية.. kcorp.