طوال الفترة الماضية، كنا نتعشم في أن يستشعر المسؤولون خطورة التراخي في التعامل مع موجة الإسهالات المائية العنيفة، التي ضربت أنحاء واسعة من السودان. وكنا نحدث أنفسنا بأن نرى مسؤولاً تحت طائلة المحاسبة بحجة التقصير أو الإهمال، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث..! وكنا نمنِّي أنفسنا برؤية استقالة يدفع بها أحد المسؤولين، اعترافاً بالخطأ أو الإهمال في التصدي لمحاربة غاشية الإسهالات المائية، التي فشى خطرها في مناطق عديدة بالبلاد، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث أيضاً..! بل استمر المسؤولون عن شؤون الناس الصحية في مواقعهم، يرفلون في نعيم المناصب، بينما يتقلّب المرضى في جحيم الكارثة. ويحصدون رواتبهم آخر كل شهر، بينما تحصد الإسهالات اروارح البُسطاء والمعدمين يومياً..! وأسوأ من ذلك كله، فهناك بعض المسؤولين يخرجون إلى الناس يحدثونهم بعنهجية وسخرية، وينفون وصول الإسهالات المائية الى مرحلة الوباء، ويجزمون بأن ذلك ليس حادثاً إلا في خيال أحزاب المعارضة. مع أن المؤتمر الشعبي وهو حليف حكومي راسخ، ظل يحدث الناس ليلاً ونهاراً بأن الإسهالات المائية وصلت مرحلة الوباء، بل وطالب الحكومة بإعلان ذلك حتى تفسح المجال لأطقم وزارة الصحة العالمية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه..! وما يخفف على النفوس، أنه في غمرة ذلك كله، يخرج إلينا اختصاصي الصحة العامة بوزارة الصحة في ولاية شمال دارفور عصام عثمان، بموقفين أحدهما شجاع وآخر جرئ. فشجاعته تمثلت في تقديم استقالته من المنصب، بعدما رأى استهتار الحكومة بأرواح مرضى الإسهالات المائية في مستشفى كبكابية، بتقصيرها المشين وإهمالها المبين لشأن المرضى، وعدم توفيرها الكادر والمعينات الطبية المطلوبة..! وأما جرأته فقد تمثلت في فضح بعض المسؤولين بالوزارة، وتأكيده على أنهم بدلاً من أن يعملوا على محاصرة الوباء من خلال الاعتراف به وبالحالات المصابة به، يقومون بتضليل وزارة الصحة، من خلال كتابة تقارير مفتراة ومفبركة لإخفاء الواقع المأزوم، الذي تعيشه بعض مناطق ولاية شمال دارفور، جراء الصعود المخيف لحالات ضحايا الإسهالات المائية. وظني أن تلك الاستقالة، بجانب أنها برهنت على وجود بعض المسؤولين ممن لايزالون يؤمنون بآدمية وإنسانية المواطنين، إلا أنها كشفت لنا عن حقائق صادمة، حول الطريقة التي تُدار بها أمور الصحة في البلاد. وأثبتت أن الدولة تمارس التدليس والتضليل، حتى في الأمور التي لا تحتمل غير المواجهة وقول الحقيقة عارية دون تجميل أو تزييف..! بل أن تلك الاستقالة دللت على أننا أفرطنا في الأحلام، حينما كنا نتوق لمحاسبة أو إقالة أو استقالة بعض المسؤولين، على خلفية تزايد ضحايا الإسهالات، للدرجة التي تضطر معها المستشفيات للاستعانة بحجرات المدارس لاستقبال المرضى. ولكن يبدو أننا نسينا أن أدب الاستقالة أو المحاسبة ليس مكتوباً في قواميس هذه الحكومة. المؤسف في القضية كلها، أن الحكومة سادرة في غيها، ولا تريد أن تبارح مربعات تضليل المواطنين، وتصر على اجترار التصريحات النافية لوجود إحصائيات مخيفة عن الإسهالات المائية، مع أن الواقع يقول غير ذلك..! ويبدو أن الحكومة قد وقعت في فخ انصراف وسائل الإعلام عن تغطية أخبار الإسهالات المائية، واتجاهها لمتابعة أخبار جرائم الاختفاء وحوادث الاختطاف، ولذلك ظنّت – أي الحكومة – أن موجة المرض قد هدأت. وإذا ثبت هذا – وهو أمر راجح - فإن الحكومة تكون قد أجرمت لمرة أخرى في حق ضحايا الإسهالات المائية. الصيحة