قبل سنوات قليلة جداً كانت زميلتنا منى أبو العزائم تسير في شارع لا تخاف على نفسها إلا من الحظ السييء..أوقفت السيدة منى سيارتها لقضاء بعض الأغراض..حينما عادت وجدت السيارة وقد تهشمت بعد أن هوت عليها لافتة إعلانية ضخمة..وحينما تبحث منى على من تقيّد بلاغ الإهمال تضع يدها على أول خيط يقود جبل الجليد في مملكة الإعلان الوهمي والعشوائي في ولاية الخرطوم. أمس الأول هطلت "مطرة" متوسطة بمقاييس الخريف..زخات الخريف أدت لإعلان حالة الطواريء بالخرطوم..مدير عام مرور السودان هرع بنفسه إلى الميدان..بعض من قوات الجيش انتشرت في شوارع الخرطوم..المياه تحول الميناء البري إلى ميناء عائم..نكهة الصرف الصحي المخلوط بمياه الأمطار يجعل التلوث حاضراً..كل هذا من "مطرة" واحدة لم يصاحبها فيض من النهر الذي يشق الخرطوم. حكايتنا مع الخريف باتت معهودة..حفظ الناس تلك اللقطة التي يظهر فيها الوالي وهو يخوض في الماء مع الخائضين مشمراً عن بنطاله قابضاً على نعله..الصورة المتجددة ظهرت مع سقوط اللوحات الإعلانية على رؤوس المواطنين..الشركات الخاصة تعلن عن نفسها وتمنح الناس فرصة مجانية للموت..حتى هذه اللحظة لا يوجد قانون يحدد المواصفة اللازمة لتشييد لوحة إعلانية. يترك الأمر لضمير المعلن وأمانة المقاول وربما حظه من العلم والخبرة.. النتيجة مع كل ريح عاتية تسقط لوحة عالية..بعد الحادثة يتم إعادة نصب اللوحة في ذات المكان بما تبقي من حديد ولا عزاء للمواطنين من أصحاب الحظ العاثر. ذات الفوضى تضرب أطناب شوارع الخرطوم..كل مواطن يقتطع من الشارع العام ما في وسعه..البعض يكتفي بحديقة جميلة ولكنها مغلقة تستتر من العامة بأسوار من حديد..هنالك آخرون شرعوا في استثمار شارع الحكومة في بناء غرف من حديد الزنك..تلحق بهذه الغرف العشوائية مرافق صحية مسيئة للبيئة..هذه الغرف تؤجر للعمالة الإثيوبية بمبالغ خيالية البعض يستوطن في الغرفة الواحدة دستة من البشر.. النتيجة تضيق الشوارع الواسعة في غفلة الحكومة. في تقديري مطلوب من حكومة الخرطوم أن تعلن عن حملة رسمية عنوانها "الزم حدودك"..كثير من الدول المتقدمة حافظت على وقارها بفرض قانون رادع لكل من تسول له نفسه بتجاوز حدوده..فرض غرامة على من يغلق الشارع بما تبقى من أنقاض المباني يجعل الخرطوم نظيفة وجميلة..غياب القانون يشيع الفوضى. بصراحة..إذا كانت "مطرة" واحدة تفعل فينا كل ذلك..ماذا لو حدث السيناريو الأسوأ..أغلب الظن أن خيالنا الرسمي لا يتصور كارثة أكبر من "مطرة" تغلق حتى أبواب القصر الأبيض الرئاسي.. وتخلف أربعة عشر نفساً زكية في عداد القتلى. الصيحة