صبيحة الجمعة 30 يونيو 1989م لم يكن يخطر ببال أشد الحالمين والمتفائلين المنتمين للجبهة الإسلامية أنهم سيبقون على سدة الحكم لخمسة أعوام. فقد كان عرابهم نفسه (حسن الترابي) يعد العدة لمآلات شتى خلال فترة وجيزة. عليه حينما بدء في تنفيذ مشروعه الداخلي والقاضي بإعادة صياغة المجتمع السوداني وفق أهواءه الضيقة وأفكاره المقيتة، كان يأمل في أن يسهم ذلك في وضع لبنه تبقى طموحه السياسي حياً لعدة أعوام. فبدأت مهازل و مساخر إذلال المجتمع، و تفكيك مكونات وعيه، عبر كافة الآليات و الوسائل المتاحة من منافذ إعلامية و مكونات شعبية، ثم مهازل ما عرف (بالدفاع الشعبي) وإجبار موظفي الخدمة العامة و المدنية لخوض فترات متقطعة من الاذل و القهر، ثم تفشت سياسات التمكين الرامية لعزل الاُباة و الشرفاء من شاغلي الوظائف العامة، و ذلك بالتزامن مع محاولات تغير أفكار الشباب و غسل أدمغتهم عبر حشرهم في ما عرف بمعسكرات الدفاع الشعبي، و جعل هذه الحصة من (الإهانة القومية) شرطاً لازما للشباب لدخول الجامعات و المعاهد العليا، ثم لم يتركوا من ترك سُلم التعليم، فصارعوهم بالحملات لإدخالهم زرافات و وحدانا في ما عرف بمعسكرات الخدمة الإلزامية، و التي تخدم عدة أغراض سياسية و ايدلوجية فاسدة، فهي من ناحية تتنج العناصر اللازمة للزج بها في حرب الجنوب اللاأخلاقية، و الرامية لفرض مشروع تصدير الثورة الإسلامية، و ناحية أخرى فهي أحدى هراوات النظام لكسر نفوس الشباب و وأد العزة فيهم. ثم لأن المشروع الفاسد للجبهة الإسلامية أعوج العود، فكان لا بد أن يكون ظله معوجاً، و ألقى هذا الاعوجاج بظله على أحد اهم منابع ثراء الدولة السودانية، و هو تنوعها الاثني و العرقي، و لما كان هذا التنوع العرقي و الاثني لا ينسجم مع مفاهيم التعريب و الأسلمة، فقد أوحى الفكر القاصر لدهاقنة الحركة الاسلاموية بفساد هذا التنوع و تعارضه مع مشروعهم الاسلاموي، هذا من ناحية، و من ناحية أخرى فقد قر في أذهان بعض منظريهم أن اللعب بأوراق هذا التنوع و العبث بإستقراره ربما يساهم في إطالة بقائهم في كراسيهم و يدعم إستمرارهم في السلطة، ففتحوا صندوق باندورا، على السودان و أدخلوا البلاد و العباد في أنفاق مظلمة متتالية، ما خرجت البلاد من أحدها إلا دخلت آخر أشد إظلاماً. وساء ما يعملون! هذا التخريب المتعمد والذي مورس على البلد خلال العقد الأول من عمر الإنقاذ كان مدخلاً لما عقبه خلال العقدين التاليين، حيث إبتعدت الرؤية (على سوئِها وإعوجاجها) بإبتعاد المنظر الأول للجبهة الإسلامية (الترابي) ليتحول الامر الى كارثة تشبه الفوضى، وتحولت محاولات الأدلجة الفاسدة إلى وتائر قمع متشددة، واستخدمت قوانين مثل قانون النظام العام والقانون الجنائي، كأسوأ ما يكون الاستخدام ضد الحريات الخاصة والعامة. ثم أفرزت سياسات التمكين مجموعات إدارية فاسدة، وطنت سلطانها داخل المؤسسات العامة باثبات دعهما المطلق للحاكم، والذي أخذ شيئاً فشيئا يتحول إلى ديكتاتور يصارع قوى ضغط تقوى وتخور داخل الدولة. تراكم العفن وترسب عميقاً في أجهزة الدولة، وأصبح امن النظام هو غاية في حد ذاته قصوى. فغضّت الدولة الطرف عن كل التجاوزات على كل المستويات والأصعدة، ورفعت يدها عن كل شيء يدعم المواطن خلال مكابدته لعثرات الحياة، وألغت كل الخطوط الحُمر لحرمة المال العام أو هيبته، بل وتم تجاوز هيبة الدولة نفسها، وبقي فقط خطاً احمراً واحداً لا غير وهو (آلة القمع الدموية) والتي صرفت عليها كل المليارات التي هي من حق الصحة والتعليم والبنية التحتية والحياتية للمواطن السوداني. باختصار تم إختزال الدولة السودانية إلى مكونين أساسين فقط لا غير، هما (العصبة المنتفِّذة) و (جهاز القمع)!! ثم كانت ثورة ديسمبر المجيدة!! ما الذي حدث؟ وكيف ثار هذا المارد؟ هذا السؤال هو سؤال المليون في أذهان الطغمة الحاكمة منذ ثلاثة أشهر. اما الأجابة عليه. فلا تعمى إلا على اعمى البصيرة. إن أكبر أبهى ما يميز هذه الثورة عندي، هو إحساس الشعب السوداني بكينونته. ولو لم تفعل هذه الثورة إلا هذا لكفى. ولكنها بعون الله ماضية إلى غايتها. هذا الحس الشعبي العارم بالكينونة هو الضامن لنجاح هذه الثورة. ولو شئت أنا تراه متجسداً على الأرض فأنظر لهتافٍ في عطبرة -في الشمال- لدارفور -في الغرب- والعكس بالعكس. وأنظر لفتى نحيل ينحي لتصعد فتاة ظهره سلما يرقيان به نحو أفق المجد. وأنظر لطفل صغير لمّا يتجاوز الخامسة وهو يهتف ملء الحلق ضد الطغمة، وطفلة في عمره تبكي وهي تهتف ضد (الحرامية). ثم انظر الى سيدة، أغلق عليها زوجها باب الدار شفقاً عليها، فما خنعت بل ساهمت في الفعل الثوري بكل جدارة، وهي تنقل بالتوثيق عبر الفيديو لتفاصيل الثورة امام دارها، ثم تهتف بسقوط من الطغمة وبسقوط من أغلق عليها باب الدار!! وأنظر لشعب أدمنت حكومته الفشل وغرقت في قذارتها فخصص يوماً توقف فيه الكفاح والهتاف في الشوارع ضد الظلم وانحنى كل الشعب ينظف ذات الشوارع ويطهر الأرض من رجزها وكأني به يطهرها من رجز الشيطان الذي جثم على صدر البلاد لعقود ثلاث مظلمات. ثم بعد كل هذا، هل يرادوني أدني شك في عظمة هذا الشعب وبهاءه؟ كلا ثم كلا! هل يراودني أدنى شك في إنتصار هذه الثورة المجيدة؟ كلا وألف كلا!