لم يكن انقلاب القصر مستبعدا منذ إنطلاقة ثورة ديسمير 2018م الظافرة بل قد كان أحد السيناريوهات المتوقعة والمحسوب لها من قبل الثوار ومن قبل قيادة قوي الحرية والتغيير بكافة مكوناتها المهنية والسياسية ومنظمات المجتمع المدني. فقد واجهت السلطة البائدة المظاهرات أولا بالقمع المفرط واستخدمت فيه كل أشكال العنف من بمبان ورصاص حي ورصاص مطاطي وعصي وسياط ومعتقلات وتعذيب وانتهاك لحرمات البيوت وحرمات المساجد. وعندما فشل هذا السيناريو لجأت إلي تقديم التنازلات تحت الضربات الموجعة التي تلقتها من قوة ووحدة وسلمية حركة الجماهير واتساعها. وأولها التراجع عن لهجة المواجهة والتحدي والإفراج عن بعض المعتقلين وخاصة بعض الصحفيين علي خلفية لقاء المخلوع البشير ببعضهم في 6 فبراير 2019م بالقصر الجمهوري. وثانيها حل حكومة الوفاق الوطني وتأجيل النظر في التعديلات الدستورية، ودعوة المعارضة إلى حوار شامل يقف فيه على مسافة واحدة من الجميع، ووصفه بأنه مسار مجمع عليه للحل لا يقود إلى الإقصاء أو الخيارات الصفرية، وفرض حالة الطوارئ التي كسرتها الجماهير بعد ثواني فقط من إنتهاء خطابه المشهود مساء الجمعة 22 فبراير 2019م. وثالثها تكوين ما أطلق عليه حكومة الكفاءآت برئاسة محمد طاهر إيلا والتي لم تكن إلا مهزلة وعبث وتدوير للنفايات إلي أن رمي بها الشعب في مزبلة التاريخ. وبروز المجلس العسكري وعزله لرأس النظام الفاسد جاء أيضا تحت ضغط الحركة الجماهيرة واتساعها لمستويات غير مسبوقة بعد انطلاق مواكب 6 أبريل الهادرة وانتظامها في قلعة الاعتصام أمام القيادة العامة. بروز المجلس جاء أيضا بضغوط من صغار الضباط وضباط الصف والجنود الذين شكلوا درعا حاميا للإعتصام وتصدوا لكل المحاولات الفاشلة لفضه في لحظة التحام تاريخي بين الشعب وجيشه. بروز المجلس العسكري هو البداية الحقيقية لنشاط قوي الثورة المضادة لإجهاض الثورة واختطافها وإعادة انتاج النظام الديكتاتوري الفاسد مرة أخري. وتتشكل قوي الثورة المضادة حاليا علي المستوي الداخلي من جنرالات الجيش وعلي رأسهم المجلس العسكري الذي يمثل المركز الرئيسي لقيادة وحماية نشاط قوي الثورة المضادة، ومن بقايا النظام الديكتاتوري الفاسد وآثاره الموجودة في كافة قطاعات الدولة ومؤسساتها السياسية والاقتصادية والمالية والإعلامية وغيرها، وفي مؤسسات القطاع الخاص الطفيلي التي ارتبطت مصالحها بالنظام الفاسد وأولها اتحاد أصحاب العمل الذي أصدر بيانا أيد فيه المجلس العسكري. هذه القوي والآثار لن تختفي بسهولة حتي بعد سقوط النظام الديكتاتوري الفاسد وستسعي بكل السبل لإعادة انتاج النظام الديكتاتوري، ولنا عبرة في تجربة سرقة ثورة مصر والإلتفاف عليها من قبل جنرالات الجيش الذين كانوا جزءً من نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك. هذه القوي بقيادة المجلس العسكري تجد اليوم علي المستوي الخارجي من يدعمها ويسعي بشكل محموم لإعادة النظام الديكتاتوري الفاسد من أجل تحقيق مصالح إقليمية معينة وقد بدأ نشاط هذه القوي المتمثل في: أولا: مسارعة السعودية والإمارات بإعلان تأييدها للمجلس العسكري واستعدادها لإرسال مساعدات عاجلة للسودان ومن ثم إرسال وفد مشترك من الدولتين لمقابلة المجلس العسكري والهدف الرئيسي من هذا التأييد والدعم هو إبقاء السودان في محور التحالف العربي بقيادة السعودية وضمان إستمرار بقاء القوات السودانية في اليمن، وأيضا ليتحول السودان لممر آمن لدعم قوات حِفتر المدعومة من الإمارات والسعودية ومصر في ليبيا وليصبح قاعدة تنطلق منها عملياته العسكرية. ثانيا: القمة الإفريقية الطارئة التي دعي لها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي باعتباره رئيسا للإتحاد الإفريقي لمناقشة الأوضاع في السودان تهدف في الأساس إلي التأثير علي المجلس الإفريقي ليغير موقفه من المجلس العسكري المطالب بتسليم السلطة للمدنيين خلال مدة أقصاها 15 يوما والمنبثق عن إجتماعه المنعقد بالعاصمة الإثيوبية في منتصف أبريل 2019م. ثالثا: ما جاء في الراكوبة بتاريخ 19 أبريل 2019م عن نائب رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال (جناح مالك عقار) علي أنهم تلقوا دعوة من الإمارات لإجراء مشاورات حول تحقيق السلام في السودان. وعلي الرغم من توضيح عرمان بأن الحركة ملتزمة ببرنامج قوي الحرية والتغيير وشعارات الثورة. إلا أن الدعوة نفسها التي قدمتها دولة الإمارات تعتبر تدخلا في شئون السودان وجر السودان لسياسة المحاور والتكتلات الإقليمية وهو ما يتعارض مع أهم المبادئ المنصوص عليها في إعلان الحرية والتغيير في بنده السابع الذي ينص على (تحسين علاقات السودان الخارجية وبنائها على أسس الاستقلالية والمصالح المشتركة والبعد عن المحاور، مع إيلاء أهمية خاصة للعلاقة مع أشقائنا في دولة جنوب السودان). فالهدف الرئيسي للإمارات هو دعم المجلس العسكري وضمان استمراره في السلطة لتحقيق أهدافها المذكورة سابقا. وبالتالي فإن أي مفاوضات حول تحقيق السلام في السودان من الأفضل أن تتم داخل السودان وأن تكون سودانية بحتة باعتبار أن إيقاف الحرب وتحقيق السلام العادل هو أحد أهم شعارات ثورة 19 ديسمبر الظافرة والتي جاءت أيضا ضمن البند الأول والثالث لإعلان الحرية والتغيير، فالبند الأول ينص علي (وقف الحرب بمخاطبة جذور المشكلة السودانية ومعالجة آثارها، بما في ذلك إعادة النازحين واللاجئين طوعاً إلى مواطنهم الأصلية، وتعويض المتضررين تعويضاً عادلاً وناجزاً، ومعالجة مشكلة الأراضي مع المحافظة على الحواكير التاريخية). والبند الثالث ينص علي (عمل ترتيبات أمنية نهائية مكملة لاتفاق سلام عادل و شامل). استمرار الصمود الجماهيري في الاعتصامات والالتزام الكامل بإعلان الحرية والتغيير هو الضمان الوحيد لطي الصفحة الأخيرة للنظام الديكتاتوري الفاسد وإقامة دولة الحرية والديمقراطية والمواطنة القائمة علي الأسس المنصوص عليها برنامج الحرية والتغيير. وما النصر إلا صبر ساعة. المجد والخلود للشهداء والعزة للسودان الهادي هباني [email protected] الوسوم السودان والمحاور الهادي هباني