قال السيد خالد عمر يوسف الملقب بسلك، الأمين العام لحزب المؤتمر السوداني، في لقاء له على صحيفة الجريدة السودانية يوم الخميس 7 نوفمبر 2019 أن قيادة المؤسسة العسكرية في السودان شريكة في الثورة السودانية ومساهمة في نجاحها، وكانت ردود الفعل على التصريح عاصفة وغاضبة كما هو متوقع، فانبرى السيد خالد سالك مدافعاً عن تصريحه بأنه ليس إلا إقراراً للواقع والحقائق، وتحدث عن تعرضه لحملة منظمة من التشهير والتجريح وأن المنتقدين لتصريحه يقفون ضد محاولات النقاش الموضوعي ويعملون بمثابرة من أجل تفتيت وحدة مكونات الشعب السوداني!!! وتناوُّل أمر التصريح وتداعياته ليس اهتماماً بالسيد خالد سلك في شخصه وإنما بالظاهرة والنموذج الذي يمثله السيد خالد سلك في الواقع السياسي والمجال العام السوداني الآن ولفترة طويلة سبقت، أعني ظاهرة الخفة السياسية والأخلاقية في إسقاط التصريحات والمقولات والحجج دونما تدبُر من قبل مجموعات ممن تصدوا للنشاط والعمل السياسي والعام في السودان. واقع الأمر أن تصريح السيد خالد سلك للمتأمل في تاريخه يأتي امتداداً لسلسلةطويلة من المواقف والمقولات التي يطلقها جزافاً ودونما عناية وتكبد لمشاق التفكير فيما تعنيه سياسياً وفكرياً وأخلاقياً، خاصة مع وجوده في قيادة حزب المؤتمر السوداني ومواقع قيادية أخرى في قوى نداء السودان وأخيراً في قوى إعلان الحرية والتغيير، فعلى سبيل المثال سابقاً وفي المناظرة المشهورة لحزب المؤتمر السوداني حول الموقف من المشاركة في انتخابات 2020 التي دعا لها المخلوع البشير وحزبه والحاشية المأجورة حوله خرج السيد خالد سلك وبذات الخفة وعدم المسئولية قائلاً بعدم وجود فعلي للجماهير ووصف مفهوم ومقولة "الجماهير" بأنها من أدوات "الاستهبال" السياسي المعتادة من قبل القوى السياسية السودانية على حد تعبيره!! والمدهش أن قوله هذا جاء بعد تقديمه في المنصة من قبل ممثل مكتب إعلام حزبه، الذي أعلن أن المناظرة تأتي في إطار عمل الحزب في التواصل "الجماهيري"!! هذا بالإضافة للمسوغات العديدة التي طرحها السيد خالد سلك في تلك المناظرة حول فشل وعدم إمكانية إسقاط النظام من خلال الانتفاضة الشعبية والنشاط الثوري، المسوغات التي تكفلت "جماهير الشعب السوداني" عملياً بتفنيدها وتجريدها ونفيها وإسقاطها بعد شهور قليلة من إطلاقها في حراك عظيم أزاح رأس النظام وما زال مستمر لاستكمال مهامه في تفكيك مؤسسات النظام وتركته، بما فيها إعادة هيكلة وإصلاح المؤسسة العسكرية ومليشياتها الفاسدة والمعادية لشعبها والتي يدعي السيد خالد سلك أن قيادتها المتمثلة في اللجنة الأمنية لنظام البشير شريكة في الثورة ونجاحها. كما تجدر الإشارة إلى تعليق السيد خالد سلك على نقد الحزب الشيوعي السوداني ومكتبه السياسي للاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية الموقعة بين اللجنة الأمنية لنظام البشير وقوى إعلان الحرية والتغيير وما تضعه من معوقات لإنجاز التغييرات المطلوبة في الفترة الانتقالية ووضع البلاد في مسار جديد ما بعدها، فقد قال أنه لا يرى بعد النقد اللاذع الذي قدمه الحزب الشيوعي سبب لاستمرار وجود الحزب في تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير، وهو تعليق يستبطن العداء لفصيل حليف في قوى إعلان الحرية والتغيير، كما أنه دعوة صريحة للإقصاء وتفتيت التحالف وقوى الثورة بما يتعارض والذريعة التي يطلقها السيد خالد سلك في وجه منتقدي تصريحاته المثيرة للجدل، وتزداد غرابة التعليق عند النظر له مقروناً بخفة السيد خالد سلك وإسراعه في إطلاق التصريحات التي تسعى للتطبيع مع الوضع الشائه لمليشيات الجنجويد واللجنة الأمنية التي ولغت في دماء السودانين واستباحتها. وفي تصريح آخر في ندوة عقدت في الأسابيع القليلة الماضية قال السيد خالد سلك أن شعار "أي كوز ندوسه دوس، ما بنخاف" هتاف إقصائي وعنيف، وهو الشعار الذي رفعه أولاً طلاب جامعة الخرطوم وجامعات سودانية أخرى في وجه عنف مليشيات طلاب المؤتمر الوطني المسنودة بجهاز أمن نظام البشير وغيرها من مؤسساته القمعية، ثم تبنته "جماهير الشعب السوداني" للتعبير عن استمرار المقاومة السلمية ضد عنف وترويع مليشيات نظام الجبهة الإسلامية القومية إبان هبة سبتمبر المجيدة وطوال انتفاضتها من ديسمبر 2018 وحتى اليوم، كما أنه الشعار الذي يعبر عن رغبة "جماهير الشعب السوداني" في تفكيك الشمولية والتمكين في جهاز الدولة والحياة العامة وبنائها على أسس جديدة تسع كل مكونات المجتمع السوداني على أساس العدالة والمحاسبة الصارمة أولاً، وتصريح السيد خالد سلك هذا كما أنه ينم على الخفة السياسية والأخلاقية التي لا تُحتمل وعدم الدراية والتفكير النقدي فأنه يعبر عن تعالي ووصاية ومجافاة لوجدان الشعب السوداني وتطلعاته ورؤاه عن الطريق للتغيير الجذري في البلاد. والسيد خالد سلك ليس وحيداً في ممارسة هذه الخفة السياسية والفكرية التي لا تُحتمل بإطلاق التصريحات والمقولات دونما تدبر ومراجعة وتحلي بالمسؤولية، بل يشاركه في ذلك رهط ممن تصدوا للنشاط السياسي والعام وتبوءوا مواقع قيادية في الأحزاب السياسية كافة وقوى إعلان الحرية والتغيير وأجهزة الدولة الانتقالية، ويمكن ضرب أمثلة عديدة في الآونة الأخيرة إلا أن ذلك ليس بالمهم، فالقضية المهمة هي الاستراتيجية والذرائع التي تستخدمها هذه الشخصيات للرد على الأصوات الناقدة لتصريحاتها ومقولاتها ومواقفها التي تتسم بالخفة وعدم المسئولية الفكرية والأخلاقية، وخطورة تمرير هذه الذرائع على حيوية المجال والحياة العامة في السودان، إذ أنها تعمل بحنكة وحذاقة مدهشة على مصادرة التعدد والمساءلة والتفكير النقدي وتجفيف المجال العام إلا من صوت واحد لنخبة معصومة هي أصحاب "الرصة والمنصة" وأنتهى! وتعمل هذه الذرائع كالآتي في تحقيق هذه المصادرة والتجفيف:
– وصف هذه التصريحات والمقولات وما يترتب عليها من مواقف بأنها إقرار للواقع والحقيقة وأن الأصوات الناقدة غير موضوعية ومتفلتة، وهي ذريعة كسولة وتنطلق من منهج شكلاني متسلط ومرتبك يتناسى أن الواقع والأشياء دوماً ليست كما تبدو، وأن الواقع لا يمكن تناوله من منظور واحد مختوم ومعصوم يمثل حقيقة نهائية ومطلقة، وهي ذريعة تسعى إلى إغلاق الباب أمام الحوار وتفكيك وتفتيت ومساءلة هذه التصريحات وتعريتها وكشف خوائها.
– الصعود إلى منصة أخلاقية متوهمة وإطلاق صفات البذاءة والتجريم والضحالة على الأصوات الناقدة، وفي ذلك تعالي مفرط وتصور بالتفوق الذاتي، وهي أيضاً ذريعة بائسة تمتاز بالابتزاز وتستثمر في الموروث الأخلاقي السوداني هروباً من الحوار والمساءلة ومقارعة الحجج، كما أنها تغفل أن جزء مهم ومشروع جداً وديمقراطي صميم في عملية تفكيك وتناول ونقد التصريحات والمقولات والمواقف في الحياة العامة والصراع الاجتماعي والسياسي هو مساءلة ما يقف ورائها من الدوافع والانحيازات والمصالح.
– الهروب إلى الأمام والحديث عن أن الأصوات الناقدة تعمل على تفتيت وحدة قوى الثورة ومكونات المجتمع السوداني وهدم مشروع التغيير، وهي ذريعة مجحفة لأن الوحدة المُنتجة والمُثمرة لا تتحقق إلا في إطار التعدد وتلاقحه، وأن مشروع التغيير واستمراره لا يتأتى إلا بتعدد الأصوات وحريتها في المجال العام والمساءلة المُثابِرة بل المحاصرة دون هوادة لمن قدموا نفسهم للمواقع القيادية في الحياة العامة في كل جوانبها سياسية وفكرية واجتماعية وغيره، ولعل ذلك ما عبر عنه الشهيد عبد السلام كشة في ملصقاته التي حملها في المواكب قائلاً: "نخاف على ثورتنا من النخبة".
الرضوخ لهذه الذرائع أو التماهي معها لأي أسباب أو دوافع يمثل خطورة ماحقة على الفضاء العام الهش في السودان، حيث أنه كفيل بإشاعة الجمود والترهل والكسل والتراخي من جديد، وبالتالي يسهل عملية مصادرته وإغلاقه أو اختزاله لأصوات نخبوية من أهل "الرصة والمنصة" وتفقده سمة التعدد والحيوية، وفي ذلك إعادة انتاج لجوهر مشروع الجبهة الإسلامية القومية وعودة بنا لخيبات النخبة السودانية المتكررة منذ الاستقلال وما قبله.
استمرار فتح وتوسيع الفضاء العام والمحافظة على حيويته بصراع الأفكار وتعددها دون حدود، نقد ونقض البداهات البليدة والتفكيك والتشريح لكل خطاب، المساءلة والمحاصرة والملاحقة بدون كلل ولا ملل لكل من قدم نفسه للمواقع القيادية في الأحزاب السياسية وأجهزة الدولة والحكم والمنابر الفكرية والاجتماعية وغيره هو الطريق للإبقاء على جذوة الثورة ومطلب التغيير متقد في كل ركن من البلاد، هو السبيل لاستكمال الثورة والوصول بها لغاياتها وبناء مجتمع ديمقراطي.