غيب الموت عنا مؤخرا احد رموز وقامات العمل الوطني والطبي الدكتور عبد الغفار عبد الرحيم. فور تخرجه في العام 1953 من كلية الطب جامعة القاهرة انخرط الراحل في العمل العام في خضم النضال من أجل الاستقلال الوطني. كما ساهم لاحقا بقدر زاخر في النضال ضد الدكتاتوريات العسكرية، ومن أجل الديمقراطية والحقوق وساهم أيضا في ترسيخ العمل النقابي العمالي مع زميله وصديقه المرحوم الدكتور مصطفى السيد حيث شهدت لهما مدينة عطبرة تنظيم وقيادة المقاومة الشعبية ضد ديكتاتورية العسكر الأولى. كان من رواد وقادة الجمعية الطبية السودانية، وإرسى مع آخرين تكوين نقابة أطباء السودان كل العام 1973 وانتخب ضمن لجانها التنفيذية. ومن ماثره تأسيس وتطوير مستشفى طب المناطق الحارة بأم درمان كمستشفى مرجعي وبحثي ليس في السودان وحسب بل في أفريقيا وظل مديرها العام حتى اغالته حكومة الجبهة الإسلامية ضمن حملات التشريد التي طالت الكثيرين من الكفاءات الوطنية ولكن ظلت عيادته في الخرطوم بحري ملاذا للمرضى المعدمين والمناضلين. كان موسوعي المعرفة متفهما في العلوم والآداب والفنون والتراث فلا غرو ان لقب حقا بسيد العارفين. لقد كان لي شرف العمل تحت قيادته الحكيمة فتعلمنا منه ونحن في أولى عتبات الممارسة المهنية فغرس فينا حب المهنة ووفاء المريض واحترام خصوصيته كسلوك قبل ان يقنن ويصبح التزاما مهنيا وأخلاقيا. كان ثاقب النظرة ينشر المعرفة بيننا دون من او ضجيج. كان مهموما بقضية التوزيع العادل للخدمات الطبية كما كان مؤمنا بضرورة الارتباط العضوي بين ممارسة مهنة الطب وأدابها وأخلاقياتها وبين كفالة حقوق الإنسان وفي مقدمتها قضية الحريات العامة لايمانه العميق بأن مهنة الطب لا تتوقف عند حدود التطبيب بل تستهدف الأعلاء من شأن الإنسان وتوقير كرامته وصيانة حقوقه فساهم في نشر الوعي بين الأطباء وحثهم على ضرورة الاهتمام وارتياد العمل العام وفي هذا السياق كان أول اضراب في التاريخ لاطباء السودان في أبريل 1978 والذي كان الفقيد احد مهندسيه وقادته كان للمطالبة باستعادة الديمقراطية وعودة الحريات العامة وللمطالبة أيضا بالارتقاء بالخدمات الصحية والطبية تأكيدا لهذا الدور والفهم. كان الفقيد إماما رائدا في الممارسة الرشيده والسوية إلى أنه لم يحظ بالاهتمام و التكريم الذي يستحق. ورغم ما تعرض له وما حاق به من عنت وظلم إلا أنه ظل وفيا لمهنته ولقومه وللانسانية ومحبا للخير والسلام. الا رحم الله الفقيد والعزاء لاسرته وشعبة وتلاميذه.