أنا يا صديقي إبراهيم الآن في قاع البحر، أتحسس بقدميّ الحصى الذي أقف عليه، أسمع خشخشته و أنا منتصب بعناء، و لكني ما زلت أتنفس، لا تسلني يا إبراهيم كيف، أنا نفسي لا أدري، بل إني مستغرب لما يحدث، ولا أجد تفسيراً لذلك، طعم الماء المالح في لساني، بل أن فمي مملوء منه، يدخل من أنفي أيضاً يا إبراهيم ولا أشرَق، ولكنى عجباً أتنفس، أسمع أصوات الناس على الضفة، الباكي و الحزين و الشمتان و اللامبالي، بل إني أراهم يا إبراهيم. مددت يدي في حياء و تردد، لأنها المرة الأولى التي أُضطر فيها لأن أمد يدي، و لكن لم يمد لي أحدهم يده، رغم أني أري الدموع في أعين البعض شفقةً علي، و لكنهم واقفون بلا حراك، لا أدري لماذا هم و اقفون هناك و لا يرغيون في مد أياديهم إلي يا إبراهيم، هل إستهواهم المنظر السريالي و أنا أتنفس واقفاً في قعر البحر؟ هل ينتظرونني حتى أتوقف عن التنفس و أرقد ميتاً في العمق؟ هل يريدون أن يختبروا صبري؟ الآن أري طفلين يحاولان أن يمدا يديهما الصغيرتين لي و لكن أحدهم يزجرهما بقوة: (دعاه…. دعاه، قلت لكما إتركاه)، رغم أنه كان من الباكين، عجبت، لو كان من الشامتين أو اللامبالين لكان الأمر عادياً، و لكنه كان من الباكين، أنا متأكد من ذلك، دموعه ما زالت في عينيه يا إبراهيم، و لذلك عجبت. لا تقل لي يا إبراهيم أنه قد يكون من الغرباء، لا.. هذه الوجوه أعرفها، أو على الأقل أعرف العديد منها، و أظن أني من الممكن أن أعرفها جميعاً لولا أن الماء المالح قد ملأ عيني، لا تقل أنهم كلهم شامتون يا إبراهيم، لا يا صديقي أرجوك لا تسيئ بهم الظن، إنهم أناس طيبون، عندما كنت معهم على الشاطئ كانوا يمزحون معي أو بالأحرى كنت أنا من يمزح معهم و يُضحِكهم، كانوا يحبونني و يضحكون حتى لما أقوله من نكات (بايخة) و مكررة، لا تسيء الظن يا إبراهيم… ما الذي سأجنيه من سوء الظن؟ عندما أخرج من القاع سوف لن أجد غيرهم لأمازحه، إنهم قدري يا صديقي الذي لا فكاك منه، أين الطفلين يا إبراهيم؟ إني لا أراهما الآن مع الواقفين، لا بد أنهما قد تعبا من الوقوف، أو شعرا بالأسى لأن أحد الرجال قد زجرهما و منعهما من مد يديهما الصغيرتين لي، و لذلك لا أراهما مع الناس، لو كانا موجودين لرأيتهما حتماً، رغم أن الماء المالح قد بدأ يقرّح عينيّ و يشوش بصري. طال الوقت و الرجال وقوف، و لكن بعضهم جلس و القليل منهم غادر، مشكلتي يا إبراهيم أن الشك بدأ يخامرني و صرت أفكر فيما قلته لي، أنهم كلهم من الشامتين، و لكني أطرد شكي، ماذا سأستفيد من معرفة تلك الحقيقة المفزعة عندما أخرج لأجالسهم و أمازحهم؟ كيف سأتمكن من النظر في عيونهم اذا إكتشفت أنهم لم يكونوا كلهم شامتين؟ و لكني لا أستطيع الجزم الآن، الماء المالح الذي قرّح عينيّ يجعلني لا أتبين مشاعرهم. عندما أخرج يا إبراهيم سأسألهم لماذا كانوا و اقفين هناك؟ و لماذا لم يمد أحدهم لي يده؟ لن أشكرهم بالطبع، لأنهم لم يمدوا إلي أياديهم، و لكني سأحاول أن أجد لهم عذراً، قد تكون أياديهم مكتوفة، أو مربوطةً إلى ظهورهم، أو مغلولةً إلى أعناقهم، و لكني بالطبع لن أسامح من زجر الطفلين و منعهما من أن يمدا يديهما الصغيرتين لي، لماذا هذا الرجل (لا يرحم و لا يخلي رحمة ربِّنا تنزل) ….. أعوذ بالله. الآن بدأت أحس أن الحصى لم يعد يخشخش تحت قدميّ، لقد تحررت الآن من ثقلي وبدأت أخرج من الماء و قامتي منتصبة تماماً، لا أسبح و لكنى أصعد عمودياً و بسرعة …. مثل قذيقة. عندما وصلت الشاطئ وجدت نفسي بملابسي رغم أني كنت عارياً عندما كنت في القاع …. وكانت ملابسي جافة تماماً، بل كانت تغمرني برائحة عرقي الناضح من عملي في الحقل …. عرقي الذي لا تشبه رائحته رائحة عرق الآخرين الذين كانوا معي بالحقل. ذهبت مباشرة إلى حيث كنت أمازح الناس و أضحكهم، فهبوا واقفين جميعاً قائلين: أين كنت يا رجل؟ (و الله شفّقتنا عليك يا زول)، كانوا كلهم فرحين، وقبل أن أرد قال الطفلان بصوت واحد : ماذا كنت تعمل يا (عمو) في قاع البحر؟ ومن الذي مد لك يده و انتشلك؟ لقد حاولنا إتقاذك و لكن ذلك الرجل منعنا، و أشارا لأحد الرجال و لكني لم أرفع نظري لأراه، ماذا سأستفيد من إضافة رجل أكرهه لذاكرتي يا إبراهيم؟ إحترت كثيراً يا صديقي، ما هذا التناقض بين ما يقول الرجال و ما يقول الطفلان؟ لم أجد غير الصمت حتى لا يقال أنني مجنون، فقط ذهبت لأغسل عيني لأني ما زلت أشعر و كأن ملحاً ما زال يسكن تحت جفوني. قابلتني زوجتي و سألتني بإستغراب: ما هذه الملابس التي ترتديها؟ هذه ليست الملابس التي خرجت بها من البيت! من أين أتيت بها؟ بل هي ليست لك؟ هل لك بيت آخر و إمرأة غيري؟ لقد إزداد جنوني يا إبراهيم، و سكت، لم أرد على الرجال، و لم أرد على الطفلين، ولم أرد حتى على زوجتي المندهشة من الملابس التي دخلت بها البيت و قالت أنها ليست الملابس التي خرجت بها، بل أنها ليست ملابسي أصلاً، هل يمكنك يا إبراهيم أن تشرح لي و لهم ما جرى؟ أشرح لهم هم، فأنا لا أريد أن أعرف ما الذي حدث، ما الذي سأستفيده يا إبراهيم من ذلك؟ أعوذ بالله…