كلما سافرْتَ إلى الشمالية وشاهدْتَ الأوجاع التي يعيشها مواطنها ازدادت قناعتك أن تلك الولاية وإنسانها ليسا في حساب أي حكومة ولا يتذكرونها إلا عندما تعلن عن انتخابات ليأتي أولئك المرشحون بهزالهم الفكري والسياسي ليبذلوا لهم الوعود الكاذبة. تبدأ المعاناة عندما تمتطي طريق شريان الشمال قاصداً جوف الشمالية.. هذا الطريق الذي لولا أن كُوِّنت له لجنة شعبية من أبناء الولاية قررت أن تبدأ العمل في الطريق في نهاية الثمانينيات وأوائل التسعينيات لما قام، ولظلت الشمالية معزولةً عن العاصمة وبقية أجزاء السودان.. فساهم المواطن هناك بتمره والمغتربون من أبناء الولاية بريالاتهم ودراهمهم وديناراتهم ودولاراتهم حتى أنشأوا شركة "شريان الشمال" واشتروا الآليات الثقيلة، لتساهم معها لاحقاً وزارة الطرق وولاية الخرطوم التي يقطع الطريق 140 كيلو متراً من أراضيها قبل أن يدخل إلى الشمالية في اتجاه الشمال الغربي قاصداً منحنى النيل عند الملتقى.. ولو سلكت الطريق الآن لرأيت كيف استفادت ولاية الخرطوم من هذا الطريق قبل أن تستفيد الشمالية بعد أن تمددت باستثماراتها وشركاتها على طول 140 كيلو متراً التي ذكرناها. هذا الطريق الذي بناه أهل الشمال، أو على الأقل ابتدروه وقد كان أحدث وأجمل الطرق القومية، تحول الآن إلى (شوية) ظلط في مجموعة حفر بعد أن أحالته الشاحنات المصرية الثقيلة إلى أكوام أسفلت لأن الطريق غير مهيأ لاستقبال شاحنات ذات الستين والسبعين طناً وهي تحمل مجموعة مواد منها الشبسي (البطل) والحلويات الملونة، وفي أحسن الحالات أسمنت بمواصفات بعيدة كل البعد عن مواصفات أسمنت عطبرة وبربر، لتعود إلى مصر باللحوم والمواشي السودانية حيَّة ومذبوحة والسلطات السودانية لا تفكر إلا في (شوية) رسوم عبور لا تُثمِن لا تُغني من جوع.. وهو موضوع سنعود له مفصلاً. الشمالية التي أصبحت هدفاً للمعدِّنين العشوائيين من كل حدب وصوب، الذين جاءوا جميعاً على حساب خدمات المواطن البسيطة من وقود وخضروات ومواد تموينية لتصبح الأغلى على الإطلاق في كل شئ.. سوق سوداء وسوق أخرى موازية تقوم بها الحكومة نفسها فيما يسمى ب(الوقود الاستثماري) ليُباع جالون الجاز فيها ومن محطات وقودها ب(1110) جنيهات، تقريباً أغلى من السوق السوداء في الخرطوم، تحت رعاية السيدة والية الولاية الشمالية، ويحدث هذا تحديداً في منطقة الدَّبة، السوق الرئيسي لتجار الذهب.. وهذا موضوع آخر سنعود له بتفاصيله أيضاً. مازالت الخدمات الأساسية تقدم بصورة عشوائية، حتى الأراضي والخطط الإسكانية والحكومة هناك تتفرج وكان الأمر لا يعنيها. المرارات هناك لا حدَّ لها، سنتطرق إليها كلاً على حِدة خلال الأسبوع القادم. في عهد الإنقاذ كتبنا مرَّةً أن المسئولين في الشمالية لا يعتزلون نساءهم ولا مكاتبهم المكيَّفة ليبحثوا عن مشاكل ولايتهم، فتوعَّدنا أحد الوزراء بالضرب متى وقعنا في عينه..! في عهد الحرية والسلام والعدالة نرجو أن يتسع صدر (الوالية) وأركان حربها ويبحثوا عن حلول لمشاكل الولاية المستعصية.