منذ زمن بعيد كان الطبيب يحتفظ بنبل ورضا وإعجاب من كل المجتمع السوداني. كان محل فخر وإعزاز وتبجيل، حتى ظهرت الأخطاء مع ظهور القبول الخاص لكليات الطب وفتح الكليات والجامعات في السوق العربي بمثل ما تفتح كافتيريا ومغلق ومحل كوافير. وأصبح المال هو الأساس، والطالب متواضع القدرات، كيفما أتفق سيدرس بأموال أهله، سيدرس الطب، وسيرتدي يوما "روب العمل"، وسيكون يوما ما في مرحلة الامتياز، وفي الطوارئ يقابل مرضانا، ويكشف لهم وربما يجري لهم عمليات مستعجلة. شهدنا طوال عشرة أعوام فائتة ظاهرة الأخطاء الطبية متجاوزة نسيان الشاش في بطن المريض، إلي أخطاء التخدير والتشخيص، والسخرية من نتيجة فحص لرجل صار حاملاً، واستلام نتائج لفحص لم يجري أصلا. كما شهدنا عهد الاعتداء على الأطباء في جميع مستشفيات السودان، وأفلح مجلس الأطباء في سن القوانين ولكنه لم يسأل عن أسباب الظاهرة، وهل المرافقون كلهم أشرار وقليلو أدب؟ وشهدنا موجة ثالثة بعد رشوة الممرض ليمارس عمله في الليل البهيم في المواعيد المؤكدة لحقنة أو درب، شهدنا أساليب مؤسفة في شراكة يحرسها إبليس بين طبيب (تاجر) وصاحب معمل، حينما يجبر المرافق للبحث عن معمل معين او دواء في صيدلية معينة ولا يعرف أنه اتفاق قديم بين طبيب وطبيب وأخرى مع صيدلي ومعملي. وشهدنا الطامة الكبري هذه المرة من الاختصاصيين، يعذبون مرضاهم بالمواعيد غير المسئولة، والمجازر المالية على عتبة عياداتهم، وإنتاج ذات الأزمة بالاتفاق مع معمل او صيدلي او مستشفى، ثم شهدنا عهد التعاقدات مع المستشفيات وكأنها تدخل مطعم خمسة نجوم بالتفاوض على أسعار المسطرة التجارية أو الأصلية، ونصيب المستشفى والاختصاصي وارضية الغرفة بالملايين، وتكاليف العمليات بالدولار بعيدا عن الجنيه.. ثم تأتي المستشفيات الخاصة وهذه مأساة مليئة بالأباطيل، وهناك حكايات نذكرها بالأسماء لو يسمح القانون، وأنتم تعلمونها جميعا، معروفة بابتزازها ومريضنا يلهث بآخر أنفاسه، ولا مفر من دفع المقدم بالمليارات، (ضمانا)، ولو توفى قضاء وقدرا و بالأخطاء الشنيعة أحيانا فلابد من دفع رسوم إضافية عن شهادة الوفاة. الابتزاز هنا سيد الموقف، والسودانيون أمام مرضاهم كما في باقي الدنيا ضعفاء جدا، وهم يعلمون بكل فصول الحكاية. يبيعون كل شيء ليشتروا سريراً بالملايين تحسب دقائقه والثواني وما هي إلا أنفاس متحولة الي جنيهات تجنيها مستشفيات تحولت الى شركات من الربح الهائل، وهو استثمار شرير لو كان الضحايا مرضى بالأخطاء والابتزاز. وفي زمن كوارث الفترة الانتقالية عبر حكومتين فاشلتين بتكنقراط وسياسيين، كانوا وما زالوا بعيدا من توقيت المجتمع السوداني، حجة ومزاجا وتماهياً، نال القطاع الصحي والطبي بالخصوص حظه من الظلم والظلمات، ودفنا أعز الناس بالأخطاء والإهمال، وفي كل بيت سوداني ضحية من البتر الي الموت والعمي والإعاقة، وفقد الأخوات والزوجات تحت مخاض صار مأساة تحكي. وجلب لنا يتم كله أحزان لأطفال بلا أمهات بعد أن ذهبن في حق الله بسبب الأخطاء الطبية ذاتها، وامتلأت صفحات الجرائد بمثل هذه الحكايات، كانت الزينة قتيلة الزيتونة، (أبرزهن) وكل الجمهورية تئن من أخطائهم وابتزازهم وتجارتهم في المرضى. أنتهى عالم الأطباء مع "استثناءات" بسيطة. انتهى الى عالم من العذاب المستمر مع ملائكة الرحمة، وداخل غرف العناية. وفي ساحات الطبابة، المال والصحة يتناوبان في ثنائية خسرنا فيها المروءة والمحبة ومهنة الطب في الدنيا. وخسرنا مع كل ذلك كل ميدان ملازم للإنسانية صار ضدها وعلي حسابها. والله المستعان غدا التفاصيل