خطاب وازن فلنحسن الاستماع: عند الاستماع لخطاب د. حمدوك الأخير للأمّة أجده قد مهّد لحديث وازن، صريح وعقلاني، يتضمنه سرد وقائع يعيشها هو نفسه آنيًا في صحن حكومته الانتقالية وأخرى ثابتة حاكها ونسجها التاريخ ودارت بها الأيام والسنون، وقد كان صادقًا في الرجوع إليها رغم مرارتها لأنها تفضح بصريح العبارة، وفي بعض الفقرات ضمنيًا، واقعنا الخائب وحظنا العاثر في أن من ائتمناهم ليحكمونا طيلة العقود الطوال الماضية كانوا فاشلين بجدارة وبمعنى الكلمة وللأسف لم يكونوا على قدر المسؤولية لبلد بهذا الشموخ وبهذا التاريخ التليد الذي وضع بصماته في سجلات البشرية جمعا بمداد من نور. ومن ثمّة أقرأ في كلمات د. حمدوك بأننا كشعب وأمّة ووطن لم نستطع إلى الآن أن نمهد معابر الطوارئ التي تخرج بنا إلى برّ أمان انتظرناه منذ أن رُفع علم الاستقلال في عام 1956. فالسؤال الذي جاء ضمنيا في حديث د. حمدوك الصادق للأمة: ماذا بلغت الأمّة السودانية ومن وقف على حكمها من أهداف بعد أن خرج المستعمر الإنجليزي من البلاد؟ هل حققت أمن وسلام ووحدة البلاد؟ هل استطاعت أن تستجيب للحراك المعرفي الذي طال كل أنحاء العالم لا سيما الدول التي كانت نامية مثلنا ولم نستطع نحن أن نلقط منه ولا حتى نُطفا أو خطوطًا واهنة، فأين هذه الأمم وأين نحن الآن؟ لماذا لم نقدر أن نحكّم العقل والمنطق والذوق السليم في تجاوز خلافاتنا العرقية، الإثنية والعقائديّة التي أوصلت البلاد إلى هذه الهوّة وأوصلتنا نحن أولًا وأخيرًا إلى موقع صرنا فيه "طيش الأمم"، لماذا لم نصح طيلة الثلاثين سنة الماضية ولم نثر على الظالمين أو حتى أن ندرك ما قامت به هذه العصابات في البلد من أعمال مبتذلة. أين كنا وأين كانت عقولنا بربكم؟! هل كنا في سبات عميق لم نفق منه إلا بعد ثلاثين عامًا؟ عجبًا والله، علينا أن نستحي على خيبتنا وأن نستمع القول لمن يريد بالبلد حسن الخاتمة. حمدوك يعمل للبلد ولا يركض لمصالح أو شؤون آخرين، فهل نصغي وإلا لكنّا كالحمير تحمل أسفارًا، فالدولة العميقة وحتى بعد ثلاثة عقود لا تزال تتربص بالبلاد ولن تهجع لها هاجعة فهي ترفض أن يجد الإصلاح والتعمير طريقه على يد الذين أتت بهم الثورة ولكن هيهات. يشيد د. حمدوك بنضال شعب السودان الذي ثار على جبابرة الإنقاذ والظلم والرجعية. يذكر بأن هذا الشعب لا يزال ينتظر ساعة الانطلاقة إلى آفاق السلام الشامل والأمن الكامل والعدل العامل لمصلحة كل فرد من أفراد الشعب السوداني المناضل من أجل حقوقه وما سلب من ممتلكاته، قائلاً: "تشهد بلادنا أزمة وطنية شاملة منذ استقلالها تمثلت في غياب المشروع الوطني الذي يحظى بإجماع كاف يحقق رغبة السودانيين والسودانيات في قيام حكم مدني ديمقراطي يحقق المواطنة المتساوية. نهض شعبنا من بين الركام وفجر ثورة ديسمبر المجيدة بأوسع مشاركة جماهيرية وباستجابة القوات النظامية لنداءات الشعب التواق للتغيير. منحت الثورة فرصة تاريخية لبلادنا بما طرحته من ملامح المشروع الوطني المنشود عبر شعار "حرية سلام وعدالة". مع ذلك ورغم ما حققته الثورة في عامين من سلام وفك للعزلة الدولية وسير في طريق التحول الديمقراطي، إلا أن وطأة الماضي الثقيلة تركت انقسامات متعددة الأوجه (مدني مدني – مدني عسكري- عسكري عسكري) وقد تفاقمت هذه الاختلافات في الآونة الأخيرة وأصبحت تعبر عن الأزمة السياسية العميقة التي تعاني منها البلاد حالياً." مخاطر الشبح على الانتقال: لولا وجوده ودأبه ومثابرته في كل الجهات خارجيًا وداخليًا لما تحقق ما وصلت إليه حكومته من إنجازات مثال إنجاز السلام في مرحلته الأولى وفك العزلة الدولية وإزالة اسم السودان من قائمة الإرهاب والإصلاحات القانونية والسياسية والانفتاح الاقتصادي. ولكن كل هذه الإنجازات صارت مهددة، ويشير في هذا الصدد إلى أن هنالك تحديات عديدة تعترض مسار هذا الانتقال على حد قوله تتمثل أهمها في الآتي: "الوضع الاقتصادي والترتيبات الأمنية والعدالة والسيادة الوطنية والعلاقات الخارجية واستكمال السلام وتعدد مراكز القرار وتضاربها والوضع الأمني والتوترات الاجتماعية والفساد وتعثر إزالة التمكين وبناء المؤسسات. يأتي كل ذلك على خلفية الانقسامات داخل الكتلة الانتقالية وعدم وجود مركز موحد للقرار وغياب الأولويات والتصور المشترك للانتقال." يستطرد في هذا السياق ليشير لما شهدته الفترة الماضية من تصاعد الخلافات بين شركاء الفترة الانتقالية ويحذر أن ذلك، على حد قوله: "يشكل خطراً جدياً لا على الفترة الانتقالية فحسب، بل على وجود السودان نفسه، وقد بذلت مجهودات في التواصل مع الأطراف المختلفة ونزع فتيل الأزمة، والتي أرى أنها لن تحل إلا في إطار تسوية سياسية شاملة تشمل توحيد الجبهة المدنية والعسكريين وإيجاد رؤية مشتركة بينهما للتوجه صوب إنجاح المرحلة الانتقالية وبناء الدولة المدنية الديمقراطية التي تنهض على قاعدة المواطنة المتساوية." ولم يكن د. حمدوك سلبيا في ذكر ما هو خطير محذرًا منه بل جاء بمقترحات جليلة وازنة تمهد لسبيل الانتقال بالأمة والوطن إلى الأمام، حيث يقول أنّه يتقدم بمقترحات هامة كأساس لأي تسوية سياسية تبعد شبح الأزمة الحالية وتفتح الطريق نحو الانتقال الديمقراطي ومن أهمها إصلاح القطاع الأمني والعسكري الذي صار مقلقًا للغاية لوجود عنصرين في الظاهر متفقين ولكنهما قد لا يتفقان خلف الكواليس، بالإضافة إلى ذلك أن أيادي الدولة العميقة تحاول بالبروبغاندا التي تنشرها زعزعة الأمن وإثارة الخلافات بين العنصرين، القوات المسلحة وقوات الدعم السريع ولا أحد يمكن أن يتنبأ بأن تستمر هذه الأمر على هذا المنوال الغير آمن؛ في الحقيقة نحن نستكين ونرقد فوق منجم بارود سريع الاشتعال، والحل الأوحد أن تتوحد القوى وأن يكون لهذا الشعب جيش واحد بأهداف واحدة وآمال واحدة كلها تصب في بوتقة واحدة من أجل أمنه وأمانه. لذلك وعلى حد قول د. حمدوك فإن قضية إصلاح القطاع الأمني والعسكري قضية وطنية شاملة لا تقتصر على العسكريين ويجب مشاركة المجتمع السياسي والمدني في رؤية الإصلاح، وهي قضية مفتاحية لكل قضايا الانتقال وبدونها لا يمكن حل قضايا الاقتصاد والعدالة الانتقالية وبناء الدولة المدنية وهو الأمر الذي يتطلب الآتي: 1) القوات المسلحة السودانية يجب أن تكون الجيش الوطني الوحيد وذلك يتطلب إصلاحات هيكلية وعقيدة عسكرية جديدة وتمثيل التنوع السوداني في كافة مستوياتها وتنفيذ اتفاق الترتيبات الأمنية الوارد في اتفاق جوبا لسلام السودان. 2 2) قوات الدعم السريع ذات طبيعة خاصة وساهمت بدور إيجابي في التغيير ودمجها في القوات المسلحة يتطلب توافق بين قيادة القوات المسلحة والدعم السريع والحكومة للوصول لخارطة طريق متفق عليها تخاطب القضية بكل أبعادها. 3) جهاز المخابرات العامة والشرطة السودانية يجب أن ينفذ ما ورد في الوثيقة الدستورية بشأنهما وأن يخضعا لعملية إصلاحات عميقة وجذرية وعاجلة. اضطلاع الجهاز التنفيذي بدور أكبر في إدارة جهاز المخابرات وتغيير كافة مدراء الإدارات بآخرين حادبين على نجاح المرحلة الانتقالية وإجراء إصلاحات جوهرية وسريعة في هيكله وطرق عمله. 4 4) مراجعة النشاط الاقتصادي للمؤسسة العسكرية وحصره في الصناعات ذات الطبيعة العسكرية ومراجعة الشركات التي انتقلت لحوزته عقب التغيير ودمج نشاطه الاقتصادي في الاقتصاد الوطني تحت ولاية المالية على المال العام. 5) ابتعاد القوى السياسية عن العمل داخل القوات المسلحة وعدم استقطاب منسوبيها. 6) تطوير صيغة مجلس الأمن والدفاع لمجلس للأمن القومي يمثل فيه المدنيون والعسكريون بصورة متوازنة ويختص بوضع استراتيجية الأمن القومي ومتابعة تنفيذها. 7) قضية مستقبل القوات المسلحة وتنظيم علاقتها بالحياة السياسية الديمقراطية ستكون من قضايا المؤتمر الدستوري التي ستحسم قبل نهاية المرحلة الانتقالية. من وراء المخططات الإجرامية؟ ويجب أن نشير في هذا المقال إلى بعض العوامل التي تعرقل مسار الثورة والتغييرات التي يسعى إليها فريق الحكومة الانتقالية بكل جدية، وأنّ هناك مخطط صفق يُدار بعناية فائقة عبر تجييش مئات الشباب بالأسلحة البيضاء لصنع خارطة نفوذ وصراع في المجتمع السفلي للمدينة، يُبنى عليها أساس جريمة منظمة يتم مدّها بالأسلحة الخفيفة والمخدرات بأنواعها المختلفة في ظل ضعف الرقابة الأمنية الحالية. وإن هذا المخطط الذي بدأ بصورة جادة في شهر مارس 2020م استطاع تجنيد فئات عرقية معينة لعرقلة الأمن والقيام بأبشع الجرائم للكيد للأجهزة الأمنية والطعن في مصداقيتها وحرفيتها. وهناك معلومات تقول بأن أثرياء الإنقاذ من شرق السودان وآخرون يقيمون في دول مجاورة، وقادة الأمن الشعبي سابقًا، ومكونات أمنية مخلوعة مختصة في حرب العصابات يعملون جميعهم بدأب وجهد منقطع النظير على تفعيل وتكثيف اضطرابات داخل المجتمع السوداني وبين مختلف إثنيّاته هادفين بذلك إلى اجهاض الثورة.