أعادت أحداث 25 يوليو في تونس و القرارات التي أعلنها رئيس الجمهورية التونسي قيس سعيد بتجميد البرلمان ورفع الحصانة عن النواب و توليه لمهام السُلطة التنفيذية ريثما يتم إعلان حكومة جديدة، و إعفاؤه لرئيس الحكومة الحالية هشام المشيشي ، أعادت هذه القرارات الجدل حول الديمُقراطية كنظام للحُكم و الحفاظ عليها مُمارسة وسلوك ومبادئ و مؤوسسات .. كان الرئيس التُونسي قد أعلن للشعب التُونسي هذه القرارات بعد الإحتجاجات والمظاهرات العنيفة من الشعب التُونسي في ذكري عيد الجمهُورية التُونسية .. وقام مُتظاهرون غاضبون بعمليات إحراق وتكسير لعدد من مقار دور حزب حركة النهضة (الإسلامي) ، و قاموا بإحتجاز رئيس مجلس النواب ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي أمام البرلمان في سيارته ، كما قام الجيش والشرطة بمنع النواب من دخول البرلمان تنفيذاً لقرارات رئيس الجمهورية ، أعلن قيس سعيد أنه لم يقُم بإنقلاب كما تم الترويج له من البعض ، وأنه لم يخرُج عن الدستور وصلاحيات رئيس الجمهُورية المُنتخب من الشعب بتطبيقه فقط لنص المادة (80 ) من الدستور في حالة حدوث خطر داهم علي البلاد ووحدتها وأمنها القومي ، وعدّ ما حدث في 25 يوليو بعد مظاهرات الشعب وما سبقته من أحداث وعمليات إرهاب بحسبه ، بالإضافة للوضع الصّحي في البلاد والإنهيار الصّحي بسبب تفشي الكورونا ومعدلات الوفيات اليومية كأعلي دولة في أفريقيا والمنطقة ، كذلك الأوضاع الإقتصادية وتفشي البطالة وحالات الفسّاد المتورط فيها بحسب رئيس الجمهُورية أعضاء في البرلمان والحكومة .. كُل هذا عده قيس سعيد تحت بند الخطر الداهم الذي يُهدد تونس ، وأنه عملاً بالدستور وبعد مشاورة رئيس الحكومة وإعلام ومهاتفة رئيس مجلس النواب قام بإتخاذ قراراته تلك .. رفضت النهضة و ثلاثة من الكُتل البرلمانية وهي إيتلاف الكرامة والتيار الديمُقراطي وكُتلة قلب تونس تلك القرارات بإلاضافة لأحزاب أُخري وإعتبرتها إنقلاباً وخروجاً عن الشرعية ولا تتوافق مع الدستور ، بينما أيدتها فقط كُتلة الشعب .. وكذلك أحدثت القرارات حالة من الترقُب والإنزعاج لعدد من الدول الخارجية ، كالمانيا و إيطاليا ، و صدرت بيانات من الإتحاد الأُوربي والأمم المتحدة و الجامعة العربية في ذات الوجهة دعماً لإستقرار تونس وضرورة الحِوار والتهدئة ، و صرّحت الولاياتالمتحدة في تعليق من المتحدثة بإسم البيت الأبيض بأن ماحدث في تونس لا يُعد إنقلاباً وأن الولاياتالمتحدة تُراقب الوضع .. وكذلك خرج بيان بإسم وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بعد مُهاتفته للرئيس التُونسي أنه قد حثّ الرئيس التُونسي علي إحترام حُقوق الإنسان و مبادئ الديمُقراطية وأن الولاياتالمتحدة ستقف مع تونس في أزماتها كصديق .. بقراءة لكامل المشهد في تُونس ومنذ ما عُرف بثورة الحُرية والكرامة في 17 ديسمبر 2010 ، فقد تغير الوضع في تُونس بإتجاه الديمُقراطية في بداية ما عُرف بثورات الربيع العربي وقتها ، وتمّ تغيير الدستور في 2014 بعد الإستفتاء عليه ، وأُقرّت الدولة نظام الجمهُورية والبرلمان ، وفق رئيس للجمهورية مُنتخب من الشعب له صلاحيات تتعلق بالسُلطة التنفيذية ، و يمثل البرلمان السُلطة النيابية والتشريعية ، بالإضافة لوجود القضاء و المحكمة الدستورية ، ظلّت حركة النهضة في الفعل السياسي التُونسي مُنذ الثورة ، وتمتلك أغلبية حالية بي ( 54 ) مقعد برلماني ، شهدت تُونس طوال الفترة ما بعد الثورة صِراعات داخلية للقوي السياسية فيما بينها ، وصراع مابين النهضة والرئياسة ، ومُصالحات ، و أيضاً صراعات داخل البرلمان التُونسي ، وإتهامات بالعمّالة والتكفير ، و صُنفت حركة النهضة كذراع للإخوان المُسلمين ، كما طالتها إتهامات بالفساد وعمليات التربح لنوابها و وزارائها ، و طالتها تُهم الوقوف وراء عمليات إرهابية ، وأن وزارة الداخلية فككت عدد 33 خلية إرهابية بتُونس مع وجود العديد من الخلايا النائمة لاتزال ، كذلك وجهت لها إتهامات صريحة بالضلوع في التخطيط والتنفيذ عبر كادرها السّري لإغتيال كُلاً من اليساري شُكري بلعيد و المُعارض القومي التونسي محمد الإبراهمي في 2013 لكليهما ، كما أن حركة النهضة تُواجَه بإتهامات مُحاولات نشر خطاب التكفير والكراهية والتطرف ، كما أنها نفسها أي حركة النهضة قد حدثت بها أزمات تنظيمية داخلية وإنقسامات ، تقدم فيها عدد من القيادات بمجلس الشُوري وقيادات شابة ونسائية بالإستقالة ، وكل هؤلاء إتهموا رئيس حركة النهضة بالدكتاتورية ومحاولات التوريث و البقاء لأطول فترة وبتحويل التنظيم لتنظيم ديكتاتوري مُستبد لا تُمارس فيه الديمُقراطية .. أيضاً كإمتداد لأزمة تُونس كانت تنشب صِراعات مابين رئيس مجلس النواب الغنوشي ورئيس الجمهورية قيس سعيد ، حاول الرئيس تخويل كُل الصلاحيات التنفيذية له تصريحاً بالقول للعودة لدستور بورقيبة 1959 وعمل إستفتاء شعبي عليه ، الأمر الذي وجد مُعارضة بإعتباره عودة للسُلطة الديكتاتورية وإنقلاباً علي الديمُقراطية مابعد الثورة .. كُل هذا يوضح بجلاء أن الديمُقراطية بتُونس ظلت تُعاني وتُصارع وأن هنالك مُحاولات مُستمرة لإختطافها وتشويهها أو تحييدها أو إستغلالها أو حتي الإنقلاب عليها ! .. ونقول صراحة وبوضوح أن ما تم من قرارات لرئيس الجمهورية هو إنقلاب علي الديمُقراطية و الدستور التُونسي ، إذ أن الفقرة (80 ) والتي أعلن قيس سعيد الإستناد عليها تُقر صراحة ونصاً حتي في حالة الخطر الداهم بوجوب الإنعقاد الدائم لمجلس النواب وهذا مالم يتم إذ تم تجميده لمدة 30 يوماً ، وكذلك تنص بشرط إعلام المحكمة الدستورية وهذا أيضاً لم يتم وبمشاورة رئيس مجلس النواب وهذا لم يتم إذا تم إخطاره بالقرارات هاتفياً وليست مُشاورته ، وكذلك ، وبحسب المادة (80) يجب عدم توبيخ الحكومة ورمي اللوم عليها علانية ، وهنا نجد الرئيس قد خالف ذلك برمي اللوم علي الحكومة ونشر إتهامات بالفساد مقرونة برفع الحصانة عن النواب تمهيداً للمُحاكمة وهذا من صميم أعمال السُلطتين التشريعية و القضائية .. إذاً الرئيس وعكس ما يقول فهو قد خالف الدستور التُونسي ، ولا نعلم كيف فات هذا علي حكومة الولايات المُتحدة لتُصرح عبر البيت الأبيض أن ما حدث لا يُعد إنقلاباً أو خروجاً علي الديمُقراطية ، وكذلك تصريح وزير الخارجية الأمريكي بمناشدة رئيس تُونس بالمحافظة علي مبادئ الديمُقراطية وحقوق الإنسان بدلاً عن إدانة واضحة لما تمّ من سلوك ضد الديمُقراطية ومؤوسساتها وتعدِّي من الرئيس علي الدستور التُونسي ، كُلنا يذكر ما تمّ من الغوغاء جماهير الحزب الجمهوري بتحريض ومساندة مباشرة وغير مُباشرة من ترامب يوم 6 يناير 2021 بمبني الكابيتول ، بعد أن رفض ترامب الديمُقراطية وحاول التشكيك فيها و ما نتجت عنه الإنتخابات الأمريكية ، وإتهام الديمُقراطين وبايدن بتزويرها وسرِقتها ، ونداءه لنائبه بإعاقة العملية الديمُقراطية ورفضه الإعتراف بفوز بايدن ، شهدنا جميعاً وكُل العالم مُحاولات تغويض الديمُقراطية في أكبر بلدانها الولايات المُتحدة ، وشهدنا كيف أدان جميع الحادبين عليها في أمريكا بمن فيهم بعض الجمهُوريين وكُل مؤوسسات الدولة والحزب الديمُقراطي ما حدث ، ودافعوا عن الديمُقراطية ومؤوسساتها ، والموقف العظيم من الجيش الأمريكي الذي حاول ترامب إستمالته للإنقلاب عليها ، فدافعوا عنها دفاع الأبطال وحموا مؤوسساتها ومنشآتها وعلي رأسها مبني البرلمان الأمريكي ، فكيف تري الإدارة الأمريكية الحالية من الحزب الديمُقراطي أن نواب البرلمان التونسي يُمنعَّون من دخوله بواسطة الجيش ويتم تجميدهم من قبل الرئيس ولا يُدينون هذا الموقف أو يشجبونه ! .. هذا عار في تقديري ولا يتواءم مع مبادئ الديُمقراطية ، وخلط مُخِّل وموقف لا يُشبه الديمُقراطية ولا الديمُقراطين .. كذلك علي السُلطة المدنية في الخرطُوم والسُودان وكُل القوي السياسية فيه التعلُم من هذا الدرس في ضرورة التمسُك بالديمُقراطية ، و في العمل علي ترسيخ ديمُقراطية حقيقية ، وممارستها كسلوك داخلي لكل القوي المدنية والحزبية والسياسية ، و إحترام بنود الدستور الحالي مُمثل في الوثيقة الدستورية ، مروراً بالتحول الكامل نحو الديمُقراطية داخل مؤوسسات الدولة السُودانية ، فالديمُقراطية هي الحل و هي مُستقبل كُل الدول والشعوب المُحترمة والمُتحضرة .. نأمل أن يتمسك الشعب التُونسي بالديمُقراطية وأن يرفض المتطرفون واللاديمقراطيون و الفاسدون من خلالها وبها وليس بسواها ..