شغلت ظاهرة الشاب "زنقولا" الذي طوَّر أسلوباً في فن غناء (الراب)، وجذب وحشد عشرات الشباب الصغير لحفلاته الجماهيرية الضاجة؛ شغلت الناس الذين أدان بعضهم مظهره، في بلاد لم تتعافَ بعدُ من حبس ثلاث عقود للحريات الشخصية والعامة، فبدا زنقولا بالنسبة لهم زلزالاً يريد أن يدك قيم المجتمع الموروثة ويغير من تفكير جيل كامل في التعاطي مع الفن والحياة. يؤلف زنقولا أغنياته بنفسه ويلحنها، ويحدد موقفه ابتداءً، معترضاً على ما يمكن أن يجده من نقد مسبقا: "أنا ما معاكم، أنا برة الدايرة".. "أنا ما في الأرض، عايش في المريخ". ويرى الكاتب والقانوني إسماعيل الطيب أنه مهما الناس اختلفت حول أسلوب زنقولا وأساءت تقدير فنه و"تنمرت" وشتمت الشاب الصغير مغني الراب السوداني، يجب فهم أن هنالك واقعاً جديداً يتشكل، وتحولاً يحدث في السودان والعالم كله، فلن تقاوم صعوده الشتائم والنقد المتعجل. ويرى الطيب أن زنقولا شاب صغير ناشئ، كسر المألوف في نمط الغناء وكوَّن جمهوراً، ومن حقه التعبير عن واقع جيله، وهم من حقهم أيضاً أن يتفاعلوا معه بالطريقة التي تخصهم كجيل. ويشخص الطيب: "هذا جيل من الشباب أقل من عشرين عاماً، يُعبّرون عن فهمهم للغناء بحسب ما يرون، ولا يمكن فرض وصاية عليه بالسماع لفنانين كبار مثل محمد الأمين ووردي". وينبه إلى أن ظاهرة غناء الراب تشمل العالم كله وليس السودان وحده. ويقول إنه على قناعة بتطور قوانين الحركة والتطور في التاريخ لن يتوقف: "ماشة لي قدام كان رضينا أم أبينا". ويطالب الطيب بدراسة أسباب نشوء الظواهر الثقافية والاجتماعية بعمق ووضعها في النسق الذي أنتجها وأفرزها: "الشتائم واللعائن ليست جميلة ولا مفيدة". أما الناقد الفني عثمان عجبين فيمضي في ذات الاتجاه: "ميزة زنقولا أنه رابر مبدع، في الراب ذاته ولديه بصمته الخاصة، ويحب غناءه ويخلص له"، ويضيف: "زنقولا ليس غاضباً، أو بائساً كعادة الرابرز، زنقولا فَرِح، تشعر بأنه يغني وبتوازن في نفس الوقت، وأظن أن هذا سبب شعبيته الكبيرة، وأنه يحول الطاقة السلبية إلى فرح، وهذا ما يحتاجه الشباب، كما أنها مهمة الفنون عموماً، بأن تُطهّر العواطف". ويرى عجبين أن "محتوى غناء زنقولا مختلف عن غناء الرواد المضمّخ ب"الحزن النبيل" والذي خلق جيلاً كئيباً ويحب المناحات والحزن". يقول عجبين: "في تقديري، زنقولا مؤشر للشعور بالحرية بعد الثورة، وسيترسّخ غناؤه بمرور الأيام وسيطور الغناء نفسه. فهذه بداية طريق". ويرى الكاتب مجاهد الدومة من مؤسسة (جيل جديد)، أن المسألة كلها تكمن في رعشة الفن والقدرة على منح تجربة فريدة، تجربة تتخلق من وفاء الفنان لخياله. يقول: "أُقدر جدًا وفاء الفنان لخياله، فالخيال هو دلالة اللا يقين، واللا يقين هو أرض يباب صارت جنتنا بعد تنفسها من رئة الفن، والفن -أرضنا- حيث تتحقق الحرية كلها، بنسورها الجامحة". ويضرب الدومة مثلاً بما تملَّكه شخصياً خلال عرض مسرحية "النسر يستردُ أجنحته"، فالمخرج منح حديقة خياله السرية بسخاء الفنان. يضيف الدومة: "في نقاش مع أحد الأصدقاء الفنانين، أخبرني أنه غير قادر على تذوق فن الراب، لأنه فن غارق في الذاتية". يقول: "وللمفارقة، وبالنسبة لي أن هذا السبب يهب الراب عظمته، أن تَرَاب بضمير الأنا، تصير الناس كلهم ويصيرونك، هذه النرجسية الحميدة للفنان، والتي تصيره إليه بالمعنى الكامل للكلمة". ويعدد الدومة ويعرج على بعض هذه النرجسيات؛ بدءًا بديوان سليم بركات الأول: "كل داخل سيهتف من أجلي، وكل خارج أيضاً"، ومنها إلى عاطف خيري: "حتى الشعر وقف على حيلو، قايلني الخليل". وإلى الراب في ألبومFodimixالصادر قبل أسبوع. ويرى أن "زنقولا" وضع التأسيسي لما يرغب في اختراقه، في الأرض التي يرغبها، واختار الخارج: "أنا ما معاكم، أنا برة الدايرة". أو: "أنا ما في الأرض، عايش في المريخ". ويرى الدومة بضرورة الاحتفاء بفرادات المبدعين وتذوق فنهم من الذين يصح عليهم قول فالكاو: "الوحشيونالذين يضعون أمام الزهرة العمياء مرآة فترى زهرة عمياء". الديمقراطي