محاكمنا السودانية، وبعد الفراغ من قضية الإتهام، واستجواب المُتَّهم، إذا رأت المحكمة أن البينات المقدَّمة بواسطة الإتهام لا تُفْضي إلى إدانة المُتَّهَم، فإنَّها، وعلى الفور، تُقَرِّر شطب الدعوى الجنائية، وتأمُر باطلاق سراح المتهم ما لم يكن مطلوباً في اجراءات أُخْرَى. ويمكن للمحكمة أن تُوجِّه الشاكي للمحكمة أو الجهة التي تنعقد لها الاختصاص، أو إلى المسلك القانوني أو الإداري الواجب اتباعه إذا رغب. ويمكن للمحكمة أيضاً أن تأذن للمتهم، بناءً على طلبه، بفتح اجراءات جنائية ضد الشاكي إذا كانت بيَّنة الإتهام ضعيفة على نحوٍ بَيِّن. أمَّا إذا وجدت المحكمة أنَّ بيِّنة الإتهام تُبرِّر السير في المحاكمة، فإنَّها تصيغ صَكَّاً كما يلي: ( أنا القاضي فلان بن فلان. الدرجة كذا. أتَّهِمُك بأنَّك في أو حوالي يوم كذا شهر كذا سنة كذا، قُلتَ أو فعلتَ كذا. وهذا ما يجعلك عندي مخالفاً للمادة كذا من القانون كذا لسنة كذا. فهل أنتَ مُذْنِب ?). وهذا ما يُسَمَّى ب: ( توجيه التُهْمة). في المحاكم البريطانية، حسب ما قرأتُ وأقرأ، وإن كانت الاجراءات مشابهة، إلا أنَّ هناك اختلاف في الصيغة، فهُم يكتبون بعد عبارة:( قُلتَ أو فعلتَ كذا)،، ( فإذا ثبت ذلك، فإنَّكَ مُذْنِب، وينبغي أن تُعاقَب وفقاً للقانون، لردع الآخَرِين عن ارتكاب جرائم مماثلة في كُلِّ زمانٍ آت.). هذه الإضافة لدى البريطانيين تبدو بسيطة وتافهة، ولكنَّها في رأيي، عميقة تحفر في أساس مشروعية العقاب. وأن يكون العقاب وفقاً للقانون. وأن يكون القانون قد حدَّدَ سلفاً قبل وقوع المخالفة عقوبتَها. إضافةً إلى أن يكون الأصل في الحق في توقيع العقوبة واضِحاً. هذا من جهة. من الجهة المُقابِلة، فإنَّ العبارة الإضافية في الصياغة البريطانية، تُعَلِّمُنا أوَّلاً، أن الغرض من توقيع العقاب مُوجَّه في جوهره نحو المستقبل، وليسَ إلى الماضي، بحيثُ لا يُتَصَوَّر نجاعة للعقوبة إلا كأداة ردع في المستقبل. والمبدأ هو أنَّ شخص رفضَ أن يُبَيّن الطريق الصحيح لعابر سبيل ضلَّ طريقَه لا يُعَد آثِماً، لكن إذا وجَّهَه إلى طريق خاطِئ، فإنَّه يكون قد ارتكب إثماً في حقه. ومناسبة العقوبة للمخالفة هي ما تجعل الخوف منها دافعاً مضاداً ترجح كفَّتُه على كل الدوافع الممكنة لارتكاب المخالفة. وهي تتيح لنا، ثانِياً، أن نفهم ونستبصر ما يُمَيِّز العقاب عن القصاص، لأنَّ القصاص يكون مدفوعاً فقط بما حدث، يعني بالماضي في حد ذاته، وأنَّ كل معاقبة لأي مخالفة دونَ أن يكون هناك غرض يتعلَّق بالمستقبل، إنَّما هو ثأر أو قُلْ انتقام. والانتقام لا يمكن، في تصوُّري، أن يكون لهُ غرض سوى بعض العزاء عن ألَمٍ يكون قد كُوبِدَ، وذلك برؤية المعاناة لدى شخص آخر. وهذا نوع من السادِيَّة لا أظنها تليقُ بكرام الناس، ولا يمكن تبريرها أخلاقياً. فأن يرتكب أحد دناءةً في حقي، لا يُعطيني حقاً أو مُبَرِّراً أخلاقياً أن ارتكب دناءةً في حَقِّه، وإلا كُنْتُ دنيئاً مثلَه. "شُكْرِي" [email protected]