ورد في إحدى فقرات الإعلان السياسي الذي وقّعته أحزاب الحرية والتغيير (المتوالية مع اللجنة الأمنيّة للبشير)، قبل ثلاثة أيام، عزمهم خوض الانتخابات متحالفين: "كما أن تحالفنا سيسعى لتطوير صيغة تمكِّن قوى الحرية والتغيير بأن تخوض الانتخابات العامة القادمة بصيغة مشتركة لمواصلة الإصلاحات وبناء الدولة المدنية الديموقراطية، ...، ووفق مشروع وطني متّفق عليه". ويبدو من الفقرة أن النسخة السودانية ل"نهاية التاريخ"، أي الوصول إلي صورة نهائية للحكم، قد انتقلت من عالم الرغبات المبهمة إلى حيز التنفيذ.. معطيات كثيرة تزيّن الظن في حظوظ هذا المشروع، أبرزها: 1- السلطة الانتقالية بتكوينها الائتلافي صيغة مُرضية ومريحة لأطرافها، لأنها حكومة الجميع وهي بذلك حكومة لا أحد. عملًا بالقاعدة When everyone is responsible, no one is responsible.. ويعني هذا أن أيًّا من مكونات الحكومة، يمكنه نقد قراراتها والتبرؤ من مسؤولية ما قد يناقض خطابه السياسي ويسبب له الإحراج، وبوسعه أن يصوِّت ضده أحيانًا مادام ذلك التصويت بالضد لن يسقط التوجه الحكومي بل هو فقط لتسجيل الموقف، يمكنك أن تعترض على التطبيع مع إسرائيل أو على السياسات الاقتصادية أو سيداو دون أن تضطر للانسحاب.. 2- ليس بين المتحالفين، عسكرًا ومدنيين، من يستطيع أن يحكم منفردًا حتى لو جاءت به الانتخابات، وهو أمر بعيد الاحتمال (أن يفوز أي من هذه المكونات بالسلطة منفردًا حال إجراء انتخابات نزيهة الآن أو في المستقبل القريب)، ينطبق ذلك بداهةً على كبار قادة الجيش ومليشيا الدعم السريع، الذين لا يملكون، بسبب ما قدّمت أيديهم، ترف أن يبقوا خارج السلطة ولو بعض يوم.. 3- بتحالفها هذا تمثل السلطة الانتقالية معظم مكونات النادي السياسي التقليدي، بعد طرح من لم يكونوا في الموقع المناسب عند اندلاع الحراك في ديسمبر (الإسلاميين، والقوى الموالية للإنقاذ وقتها) والنادي السياسي السوداني هو نادٍ صغير بالأساس لأسباب تتعلق بانحسار المشاركة في العمل السياسي (غالب فترات دولة ما بعد الاستقلال) جرّاء وقوعه تحت طائلة عنف السلطة متى عارضها، وهذا مما يسوغ الظن بأن تحالفا واسعًا بين مكونات هذا النادي يمكنه أن يلغي الحاجة لأي تطور أو تغيير في تركيبة السلطة، كونه يستوعب بالأصل أغلب النادي السياسي القديم.. تمديد الفترة الانتقالية بأي حجج هو الخيار الأفضل للمحتفلين، ولحلفائهم من العسكر بالذات، لكن في حال تولدت ضغوط فرضت الذهاب إلى انتخابات فإن دخولها كائتلاف حاكم هو أفضل الخيارات، إذ لا تبدو لهم الانتخابات كمخاطرة غير آمنة بالنظر للمنافسين المحتملين، فالإسلاميين لن يحصلوا على تفويض شعبي في المدى المنظور، واليسار المعارض ومعه بقية قوى الثورة من المغاضبين أوقعت بينهم الهواجس والتخوين، ويبدو أن شكلًا من الحكم الذاتي كفيل بتحييد حركة عبد العزيز الحلو، بينما صيغت اتفاقية جوبا للسلام بحيث تُضعِف باستمرار -حال تنفيذها- شعبية وشرعية عبد الواحد النور (نترك تلاعباتها الإثنية لغير هذا المقام).. إلى هنا تبدو هذه الحيثيات مطمئنة إجمالًا للائتلاف الحاكم، المبني على المزاج السياسي القديم، لكن المتغيرات الديموغرافية تفسد هذه السكينة، فالأجيال الجديدة التي اندفعت للمجال العام مع ثورة ديسمبر، والتي ستمثل القوة الانتخابية الأكبر فيما بعد، تحولّت مشاعرها من اللامبالاة (قبل اندلاع الحراك) إلى الازرداء والنفور تجاه هذا النادي (بعدما تم خداعها وتسفيه تضحياتها وأحلامها مرات)، وهي مشاعر متبادلة (وإن حالت دواعي البوليتيكال كوريكتنس دون قحت والتصريح بها بوجه هؤلاء الملاعين)، فلا توجد لغة مشتركة بين تحالف الحاكمين وهذه الأجيال، وهي أجيال لم تتوقف يومًا، حتى عندما تراجع حضورها في الشارع، عن التفكير وابتداع أشكال متنوعة للفاعلية والتعبير، ولم تجدِ محاولات الاختراق والاستقطاب إلا مع أقسام ضئيلة منهم، وهم بمبادراتهم (حتى الفاشلة) يمثلون الرصيد لأشكال جديدة من التنظيم بدأت ضربات أزاميلهم القلقة في نحتها على صخر الواقع الذميم، وقد قيل، لو طبع القرد على الآلة الكاتبة، خبط عشواء بالطبع، لبعض الوقت، فستجد أبياتًا من الشعر بين ما كتب. فما ظنّك بمن كتبوا قصة ديسمبر وسطّروا ملاحمها الباهرة لما يربو على العامين؟ شباب الغدِ سيسمعنا جوابًا. إذا كانت خطة حِلف نهاية التاريخ قد رتبت حساباتها مع الماضي، فإن التحدي الذي ينتظرها، وهي عنه ذاهلة، هو المستقبل، وصانعوه..