ومن هو الذي يستطيع أن يُعيد المارد إلى قُمقمه من جديد؟ لقد تنفَّست الشَّعوبُ السُّودانية الحريَّة، وتخلَّصت من غُلالة التَّخويف والنَّذر والوعيد التي كانت تكبَّلها. أطلقت أرواحها في فضاءات الحريَّة والانطلاق نحو مستقبل يسحق كل طاغية، بل يسحق كل ما هو قديم، من أفكارٍ ومفاهيمٍ وأدواتٍ وأيدولوجيات. هذا الشَّباب الثوري المبدئي الحاسم الذي أشعل شرارة ثورة ديسمبر تجاوز كل ضيق أياً كان مظهره سواء كان حزبياً، عقائدياً، فكرياً، أيديوجياً أو ذاتياً محضَّاً، ولن يعود مجدداً للحصون القديمة والقيود. إن الإنقلاب العسكري؛ هذه الخطوة الرعناء التي قام بها البرهان وحميدتي ومن ساندهما، هي خطوةٌ انتحاريَّة، من الصَّعب تخيُّل أن يكون لهم جميعاً بعدها أي حياة في فضاءات العمل السياسي أو حتى العسكري الشرعي في السودان. فهم قد خانوا الشَّعوب السودانية وإرادتها في حكم مدني ديمقراطي في نهاية المطاف، وحالوا بينها وبين الوصول إلى تلك الضَّفة بقطعهم الطريق على عملية الانتقال الديمقراطي المفضية لا محالةً إلى انتخابات، تختار عبرها الشَّعوبُ من يحكمها. هي خطوةٌ كما هو واضح غير مدروسة تماماً، وإن سبق التَّحضير لها، سراً وعلانيَّة، ولكنها قاصرة على المستوى الاستراتيجي. وتوقيتها غير صائب إطلاقاً، خاصةً بعد أن قالت الشَّعوبُ كلمتها في مواكب 21 أكتوبر، وتوحَّدت رغبتها في دعم التَّحول الديمقراطي ومدنية الحكومة.خروج الشَّعوب لم يكن دفاعاً عن أشخاص وإنما عن المدنيَّة، ولن تقبل مجدداً أي حكم عسكري ديكتاتوري أو شمولي. اعتمدت الخطوة على أفكارٍ غير ناضجة من قبيل توفير غطاء مدني لها بتكوين حكومة حسب زعم – البرهان الطاغية الجديد – حكومة كفاءات مستقلة. مما لن ينطلي على الشعب المكر والخداع الذي يغلِّف هذا المسعى، وذلك بطرح سؤال واحد فقط، من هم هؤلاء الكفاءات المستقلِّون الذين سيقبلون مناصبهم الجديدة وضميناً يباركون هذا الانقلاب؟ ألن يكونوا هم من بقايا الإسلاميين الذين ما زالوا يحلمون بالعودة إلى السيطرة على البلاد؟ أو أن يكونوا من الإنقلابيين الذين قطعوا الطريق على عملية الانتقال الديمقراطي؟ أو يكونوا هم ممن تحالفوا مع العسكر وهو الشيء الذي يرفضه الشعب ويقف على النقيض من رغبته؟ اعتمدت الخطوة الانتحارية كذلك على وعود واهية من أصدقائهم، وهذا يتَّضح جلياً في موقف روسيا والصين في مجلس الأمن الرافض لإدانة ووصم ما حدث في السودان كعملية إنقلاب. وربما وعودٍ من بعض الدول الأخرى التي هي الآن تنقض ما غزلته معهم كالمملكة العربية السعودية. الخطوة الرعناء قادتها حماستهم في النَّجاح في إغلاق الشرق وخنق البلد اقتصادياً، وتأجيج العنصرية والإنفلات الأمني، وإقامة اعتصام مهزلة، وحجج واهية بدعوى الحفاظ على الأمن الذي هو مسؤليتهم في الأساس، والحفاظ على الوحدة الوطنية التي مزقوها هم بالرجوع للتمترس حول القبليَّة وجرِّ الوطن إلى الوراء. هذه الخطوة مسدودة المنافذ نستْ أو تناست إرادة الشعوب التي يريدون أن يحكموها، يزعمون إن المشاركين في اعتصام القصر هم الشعب السوداني وهذه رغبتهم، متخذين من الاعتصام الواهن مطيَّة لشرعنة هذا الإنقلاب. لقد اختصروا في معتصمي القصر كل الشعوب السُّودانيَّة. وليس من الصَّعب على أي عاقلٍ منفتح الذِّهن أن يقارن أعداد بين مَنْ هم يباركون هذا الإنقلاب في مقابل الرَّافضين له من قوى الثَّورة الحديثة الحيَّة، وعصبها المشدود، الذين هم الآن في المتاريس والشوارع مجاهرين برفضهم فاتحين صدورهم عارية للعساكر والمليشيات التي تصول في الأحياء متوهمة أن سلاحها رادع لهذه الإرادة الشعبيَّة المهولة التي باستطاعتها قهر كل طاغية. ما أتوقعه أن يسارع البرهان وزمرته بإعلان تشكيل الحكومة التي يسمونها مدنية كمحاولة بائسة لامتصاص غضب الشارع ورفضه للانقلاب قبل مليونية 31 أكتوبر، بحجِّة أن هذه هي الحكومة المدنية التي يطالب بها الشعب. في حين أن الشارع والشباب الثوري المبدئي رافض لعملية الإنقلاب من الأساس بوضوحٍ وحسم، ولن يقبل أي عمليَّة تجميليَّة لها وسيستمر في مقاومته في الشوارع بأدواته السِّلمية. إن مليونية 31 أكتوبر التي دعت لها لجان المقاومة في المدن السُّودانية كلها يساندها دعوات السَّودانيين والسودانيات في الكثير من عواصم العالم ومدنه لإسماع كل من به صممٌ رفض الشعوب السُّودانية للإنقلاب العسكري، هذه الحشود الهادرة ستطبق أكثر على رقبة هذا الإنقلاب المتهور والبرهان وكل من معه، وسيعرِّيه أكثر مما هو عارٍ مضيفاً عليه مزيداً من الحرج الدولي. قد يحاولون قمع المليونيات بعنف وجنون مسعور، وبعدها قد يحاولون الوصول إلى تسوية تخرجهم من عنق الزجاجة الذي أدخلوا أنفسهم فيه، ولن يفلحوا؛ فالشَّبابُ الثَّوري المبدئي لا يقبل حتى بعودتهم إلى الشراكة في الحكم، فقلعة الثقة في العسكر المبنية أساساً من رمال قد انهارت. كما لم تصمد قلعة الثقة في الأحزاب، وهذه معركةٌ ستُخاض لاحقاً. إن إرادة الشعوب السُّودانية وبسالتها وصمودها هي الغالب في النِّهاية، فهذا الشباب الثوري المتمسك بأحلامه في حكومة مدنية وفي نظام ديمقراطي لن يتراجع مهما كان الثَّمن، فكل ما سيواجهونه قد خبروه أصلاً، وهم ازدادوا قوةً وحنكةً وخبرة ومعرفةً بدروب المواجهة، والدربُ الذي تسير عليه للمرة الثانية تعتادُ على معالمه. لقد استنشقت الشعوب السُّودانيَّة الحريَّة، وهتفت: لا لحكم العسكر. ومن يستطيع أن يُعيد المارد إلى قمقمه من جديد؟ [email protected] 28 أكتوبر 2021