(1) أحمد ود مُحُمَد ود آدم، شاب في الثلاثينات من عمره يعول أسرة ممتدة ذات فروع، فبالإضافة لأسرته الصغيرة المكونة من زوجته وأطفاله هناك والده ووالدته. يشرف أحمد على أيتام غضي الإهاب، هم أبناء أخيه المرحوم. كل هذه الأفواه يستعين أحمد على قضاء حوائجها بالصبر والحزم والعزم، وبضع شياه لا تتعدى الأربعين، ولا شيء غيرها. الحياة تحيطه برهقٍ يهد الجبال، وليس ثمة ضوء في نهاية هذا النفق القدري. تمر الأيام هكذا بلا جديد، ثم يسير بين الناس في هاتيك الربوع حديث عن الذهب في الشمال البعيد . فيحزم بعض الشباب ما لا يصح أن يسمى أمتعة فهو أقل من ذلك، ويقررون خوض المغامرة ويهاجرون للشمالية وصانقيرها. بعد حين يعودون بخفي حنين، فيتبادل السمار القصص المضحكة عن مغامرتهم الخائبة .. ثم ما كان بعيداً يصبح قريباً .. ويصحو الناس ويجدون أنفسهم في قلب ما كانوا بالأمس القريب يعدونه محض خيال .. الذهب ذلك المعدن الأسطوري الذي كانوا يشترونه بشق الأنفس من (السنوسي) في سوق امدرمان القديم، يصبح في متناول الحكايات هنا وهناك .. فلان وجد كذا جرام ، وعلان كسب كم مليون .. واحمد يخفي في نفسه أمراً، وحين كان الشباب يذهبون إلى أماكن الذهب بين مصدق ومكذب لحكاية الذهب . وبين الجد والهزل يقضون اليوم أو نصفه ثم يعودون لحياتهم العادية في رعي بهائمهم .. كان هو – كما أخبرني – قد أخذ الموضوع مأخذ الجد وعزم "أن يحددها مع الدنيا" هذه المرة، على حسب تعبيره . وتمر الأيام في المناجم والكسب قليل لا يغطي تكلفة الإنتاج فيغرون أنفسهم المتعبة بقصص الذين كسبوا الملايين من تنقيب الذهب على سطح الأرض .. ثم يأتي الخريف .. فينسى الجميع القصة ويحزمون أمرهم عائدين إلى أهلهم إلا صاحبنا (أحمد) .. الذي قرر ألا يعود وإلا معه مهر سيارة (الباترول) .. حلم الشباب هنا .. بقيَ وحده يحفر الأرض ويخرج الحجر ويسحنه حتى يصبح شبيها ًبالبدرة، ويذهب به إلى الغسال فيغسله ويعرضه للزئبق فيخيب الأمل .. ويعود مرة أخرى وهكذا .. حتى استحت منه الأرض ومن عليها .. فبدأت تبتسم له (أول مرة كسبت أربعين مليون دفعة واحدة والثانية أقل بي شوية .. والآن أريد أن أشتري سيارة جديدة). يقول وقد اكتسى الوجه بسعادة بالغة. هذا مشهد صغير مجتزأ من رواية الذهب في بادية كردفان، أدناه نلقي الضوء على البدايات .. كيف بدأت الحكاية ثم سادت وشملت كل أقاليم السودان ومن ثم أصبحت اهتمام الدولة الأساسي.
(2) ولكن ما هو الذهب ؟ يقول علماء الكيمياء وجيولوجيا المعادن بأن الذهب هو عنصر كيميائي يرمز له بالرمز Au 79 ويسمى بحالته الطبيعية قبل الضرب بالتبر. وهو لين ولامع أصفر اللون، استخدم كوحدة نقد عند العديد من الشعوب والحضارات والدول، كما أنه يستخدم في صناعة الحلي والجواهر. يتواجد في الطبيعة على هيئة حبيبات داخل الصخور وفي قيعان الأنهار، أو على شكل عروق في باطن الأرض، وغالباً ما يوجد الذهب مع معادن أخرى. يمتاز الذهب بقلة التآكل والنعومة كما أنه من أكثر العناصر الكيميائية كثافة. وقد تواجد الذهب بكثرة عند الفراعنة فكانوا يصنعون منه توابيت ملوكهم وعرباتهم، كما أنهم صنعوا منه قناعاً من أجمل الأقنعة التي عرفتها البشرية فكان مصنوعا من الذهب النقي للفرعون، في الحاضر، يشكل الذهب قاعدة نقدية مستخدمة من قبل صندوق النقد الدولي (IMF) وبنك التسويات الدولي (BIS) كما أن للذهب استعمالات أخرى فهو يستعمل في طب الأسنان والإلكترونيات. والآن مع ازدياد حمى الذهب في كل أقاليم السودان الشمالي ومنها كردفان .. ازداد الحديث عن التنقيب العشوائي أو الأهلي وأريقت لترات من الحبر حول الأمر وسابقت الحكومة المركزية في الخرطوم، وكذا المحليات الزمن للحاق بالقطار .. بالورش تارة وبالقوانين المقننة للنشاط، وتحدث من تحدث ووضعت القوانين المنظمة، واختلف المختصون، بطبيعة الحال، حول التعدين الأهلي بين قادح ومادح، ولكن الواقع على الأرض فرض شروطه في نهاية المطاف. (3) ولوضع القارئ الكريم في الصورة أكثر؛ دعونا نستمع ل(عباس) وهو شاب ماهر في التنسيب، والتنسيب يعتبر بمثابة الاستكشاف الأولي عن الذهب. ينسب بئر ذهب في المنطقة ليشرح لنا باختصار غير مخل كيف تحدث العملية: (اكتشاف المنجم بعضها بالأجهزة ولكن أغلب الناس يعملون عن طريق الحفر العادي .. تبدأ العملية بالتنسيق.. نأخذ عينة من مكان معين عبارة عن قطع حجرية و نقوم بطحن الحجر ونغسله بالماء في صحن صغير .. ينزل التراب مع الماء المدفوق وتبقى قطع صغيرة لامعة بالكاد ترى بالعين المجردة وهي الذهب. عدد هذه القطع الصغيرة يحدد إن كان هذا المكان منسِب أم لا .. إن كان منسِبا فسرعان ما يتحول المكان لمنجم كبير ويصبح ارضاً مأهولة بالحياة والناس .. حيث تحجز كل مجموعة مربعاً صغيراً خاصاً بها، وتبدأ حفر الأرض وإخراج قطع الحجارة . يتم توزيع آبار الذهب عن طريق لجنة مختصة يتعارف عليها الأهالي، ويرضون بحكمها. ومع ذلك تتسبب الآبار ذات النسب العالية في مشاكل بين الأهالي حين يحاول بعض الطامعين في الاستحواز عليها دون وجه حق.) النسب دائماً تكون بين 50 جراماً أو 40 جراماً في حالة استخدام جهاز الكشف عن الذهب . وفي الحفر اليدوي بدون جهاز تكون النسب بين 3 و4 جرامات للجوال (نعم الفرق كبير بين الطريقتين، ولكن بالنسبة للأهالي فإن الحفر اليدوي أضمن ، كما أن أغلبهم لا يملكون ما يشترون به الجهاز) . وهنا يطلعنا (عباس) على دورة إنتاج الذهب في التعدين الأهلي قائلاً: إذا كانت البئر منسبة نقوم بإحضار العمال وعددهم يكون بين 5 إلى 8 ونشاركهم بالنص في الإنتاج وطريقة عملهم يوضحها كالآتي:(بحفرو بتتبع أثر الأحجار المنسبة التي تحدثنا عنها في البداية، وتجمع وتكسر لقطع صغيرة و تعبأ في شوالات ثم ترحل للطواحين، وهناك يتم طحن الحجر حتى يتحول لبدرة تشبه الدقيق، ثم نذهب به للغسيل وهو عبارة عن حوض في الأرض مملوء بالماء ومبطن من تحت بمشمع حتى لا يتسرب الماء منه لباطن الأرض، ويقوم من نسميهم بالمعلمين بغسل بودرة الحجر باستخدام طشت متوسط الحجم بطريقة تشبه الترشيح عند الكيميائيين، وتترسب كمية أقل من بودرة الحجر يضاف إليها مادة الزئبق بكمية محددة ( وقية غالباً) . وتتم التصفية في قطعة قماش حيث يتسرب الزئبق لأسفل عن طريق القماش ويبقى الذهب في القماش. هذه مرحلة مهمة تحدد الكمية المنتجة. بعد ذلك نذهب بالكمية التي حصلنا عليها للصائغ الذي يقوم بتحميرها في النار ليتحول لونه من الأبيض إلى الأحمر ثم يضعه في الميزان ويوزن ويستلم صاحب الذهب مبلغة ليقوم بتخليص خسائر هذه العملية الطويلة والتي بدأت من مرحلة الحفر فالطحن الأولي فالترحيل مروراً بالطحين والغسيل . وبعد .. هكذا، بكل بساطة، بدأت الحكاية أول مرّة ثم اتسعت لتشمل كل السودان، ليصبح الذهب هو المورد الأول للعملة الصعبة في السودان، مشكلاً مع الزراعة والثروة الحيوانية مثلث السودان .. الذهبي.