يلتقي النيل عِند مقْرن النِيلين ليلٌوِحُ بالوداعِ في رِحلتهِ شمالاً ، مُغادراً أرض السودان كشأن مراسم الوداعِ التي إعتاد عليها أهل الشمال قديماً، ما قبْل تعبيد طريق دنقلا – أمدرمان ، وظهور البصات السفرية السياحية . كانت البصات السفرية قديما عند أوان سفرها من الشمالية الى أمدرمان تطلق أنيناً ناعماُ وكأنما تم اختيار النيسان كنوع يتناسب ومشاعر أهل الشمال، لما عرف عن صوته الذي يحمل حنيناً ناعماً متماوجاُ مع رياح الشمال و التي تحمله مع سكون الفجرِ إلى أرجاء الديار، فالبص بكامل ركابه يجوب القرى ليتوقف عند المنازل ويجمع ركابه / راكباً راكبا . مراسم الوداع، ذلك عرف مجتمعي قديم، حيث يجتمع الأهل والجيران فجراً لوداع الراكب مع مشهد لا يخلوا من العبرات والحزن لما عرف عن المجتمع من حنين متأصل كحنين أنغام الطمبور للرائع محمد كرم الله : حتى الطيف رحل خلاني ما طيّب لي خاطر الليلة وإنت يا طيف عليك أحزاني ليّ شوية كابر عشان خاطر قليبي عشاني لحظات بس تخاطر وين حتى الطيف رحل خلاني ما طيّب لي خاطر يمّه النوم أبا وجافاني!!! وأصبحت داجّي ساهر وين حتى الطيف رحل خلاني هكذا الشمال وانسان الشمال، فالنيل قد تشبع بمشاعر انسان الشمال، فيصعب عليه فراق الشمال فيتسكع الخطى عابراً أراضيه في انحناءة شبه كاملة ما بين أبو حمد والدبة مكفكفاً دمعه ، متردداً عن المضي قدماً ، ومكوناً جزر متعددة ، يعانق هذه ، ويقبل تلك في انحداره شمالاً ، قبل أن يُغادر آخر حدود السودان شمالاً. مدينة القولد ، تلك المدينة التاريخية العتيقة ترقد على ضفة النيل محتضنة حضارة ضاربة في القدم وجذور التاريخ، تظل بعض معالمها الأثرية تربط المجتمع وجدانياً كتواصل الأجيال ، فتجد نخلة ضاربة في القدم على مسمى الجد الرابع لأسرة ما ، ومنها يستمد اسم الساقية (المزرعة) وجذع النخل صفحاتٍ لكتابٍ من التاريخ ، فكل صف دائري من جذع النخلِة يمثلُ أثراً تاريخياً لعمرها لما عرف عن النخلة قص جريدها من عام لآخر حيث يعمر بعضها لعشرات الأعوام . احتضنت القولد العديد من المعالم الأثرية ، وعلى الرغم من تغيير ملامح بعضها شكلياً ليتوافق مع ما استحدث من استخدامات ، إلا أن عبق المكان يظل يحمل المسمى الأول ، فيحلق في سماء المكان بغير حروف مقروءة ، بل محسوسة ، لما ارتبط به وجدان المجتمع قديماً فيتوسط المدينة مبنى البوستة قديماً (والذي تحول الى مبنى سوداتل لاحقاً) ومبنى المستشفى القديم ومبنى المجلس (والذي تحول الى مسمى محلية لاحقاً) ، بالإضافة الى سوق الاثنين والذي احتفظ بكثير من الأسماء التجارية المستمدة ألقها من الأجداد والآباء ، فقد توارث بعض الأبناء التجارة فظل سوق القولد امتداداً لتواصل الأجيال وساحة أثرية جمعت ما بين السوق القديم والسوق الجديد كمعلم لتواصل الأجيال. في حلة الحضور بالقولد قبلي ، يقبع ديوان العمدة موسى أحمد عبد الحفيظ، تلك البناية الأُثرية التاريخية العتيقة ، والتي تقف شاهقة على مدى التاريخ في ركن قصي شرق القرية على بعد بضع كيلومترات من النيل ، يفصلها عن النيل النخيل المتناثر هنا وهنالك ليشكل كل ذلك لوحة تاريخية تحكي عن ماضٍ تليد . تميزت مباني الديوان بسمك جدرانها ، إذ يبلغ عرض الجدار ما يفوق ال 50 سم ، وهو ما يفسر صمود الديوان لحقب تاريخية ممتدة ، حيث غمرت فيضانات العام 1946 المنطقة ، وظل الديوان صامداً وكذا فيضانات 1988 و 1994م ، مما اضطر الأهالي للهجرة غرباً ، وبقي الديوان وسط الأشجار يعلوها ارتفاعاً ، متفرداً بلونه الترابي في مكانٍ تمددت فيه الخضرة على مد البصر واحاطته كإحاطة السوار بالمعصم من كل جانب . استمد مصمم الديوان وقتها شكل الديوان من الفن المعماري النوبي حيث القباوي ذات الأشكال نصف الدائرية والتي تقف شاهقة كأهرامات البركل والبجراوية ، فتحسبها في سواد الليل عمالقة عظام يحرسون النيل وهي تطل بوجوهها ناحية مجرى النيل . عرف انسان الشمال بالتسامح والعيش في منظومة مجتمعية محكمة العلاقات والوشائج فيحملها أينما أرتحل لإعمار الأرض فينشئ منظومته المجتمعية فليس غريباً أن تجد مسمى دنقلا في أمريكا في ولاية إلينوي أو أن يُسمى شارعاً في بريستول بمسمى دنقلا .. فعرف عنهم أثرهم الطيب وحبهم للآخر كما عرف عنهم اذا ادلهمت الخطوب أنهم أولي بأس شديد فلا يلين لهم جانب فهم أحفاد ترهاقا وبعانخي وشبتاكا وأماني توري وأماني ريناس وامتدادا لحضارة كرمة قبل 3000 عام قبل الميلاد حيث قامت بها ممالك عظيمة على مد التاريخ فعرفت بقوتها وتماسكها. إننا بالوقوف على آثارنا وتاريخنا في شمالنا الحبيب إذ نستشعر عظمة جزء مهم من أجزاء السودان بوابة السودان الشمالية وحضارة وتاريخ ضارب في القدم كجزء أصيل من تاريخ الدولة السودانية. [email protected]