نيجيريا تعلّق على الغارات الجوية    استقبال رسمي وشعبي لبعثة القوز بدنقلا    منى أبو زيد يكتب: جرائم الظل في السودان والسلاح الحاسم في المعركة    «صقر» يقود رجلين إلى المحكمة    شرطة محلية بحري تنجح في فك طلاسم إختطاف طالب جامعي وتوقف (4) متهمين متورطين في البلاغ خلال 72ساعة    بالصورة.. "الإستكانة مهمة" ماذا قالت الفنانة إيمان الشريف عن خلافها مع مدير أعمالها وإنفصالها عنه    شاهد بالفيديو.. فنانة سودانية مغمورة تهدي مدير أعمالها هاتف "آيفون 16 برو ماكس" وساخرون: (لو اتشاكلت معاهو بتقلعه منو)    بالفيديو.. بعد هروب ومطاردة ليلاً.. شاهد لحظة قبض الشرطة السودانية على أكبر مروج لمخدر "الآيس" بأم درمان بعد كمين ناجح    منتخب مصر أول المتأهلين إلى ثمن النهائي بعد الفوز على جنوب أفريقيا    ناشط سوداني يحكي تفاصيل الحوار الذي دار بينه وبين شيخ الأمين بعد أن وصلت الخلافات بينهما إلى "بلاغات جنائية": (والله لم اجد ما اقوله له بعد كلامه سوى العفو والعافية)    شاهد بالفيديو.. وسط سخرية غير مسبوقة على مواقع التواصل.. رئيس الوزراء كامل إدريس يخطئ في اسم الرئيس "البرهان" خلال كلمة ألقاها في مؤتمر هام    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان شريف الفحيل يفاجئ الجميع ويصل القاهرة ويحيي فيها حفل زواج بعد ساعات من وصوله    النائب الأول لرئيس الإتحاد السوداني اسامه عطا المنان يزور إسناد الدامر    لاعب منتخب السودان يتخوّف من فشل منظومة ويتمسّك بالخيار الوحيد    الدب.. حميدتي لعبة الوداعة والمكر    منشآت المريخ..!    كيف واجه القطاع المصرفي في السودان تحديات الحرب خلال 2025    صلوحة: إذا استشهد معاوية فإن السودان سينجب كل يوم ألف معاوية    إبراهيم شقلاوي يكتب: وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    كامل إدريس في نيويورك ... عندما يتفوق الشكل ع المحتوى    مباحث قسم الصناعات تنهي نشاط شبكة النصب والاحتيال عبر إستخدام تطبيق بنكك المزيف    بولس : توافق سعودي أمريكي للعمل علي إنهاء الحرب في السودان    عقار: لا تفاوض ولا هدنة مع مغتصب والسلام العادل سيتحقق عبر رؤية شعب السودان وحكومته    البرهان وأردوغان يجريان مباحثات مشتركة    وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثورة السودانية بين مطرقة دراويش السياسة وسندان الانقلاب والموازنات الإقليمية والدولية : الفرص والخيارات لبلوغ الثورة لسدرة المنتهى
نشر في الراكوبة يوم 02 - 02 - 2022

بعد أن قدم ثوار ديسمبر البواسل أرواحهم الطاهرة مهرا لبناء دولة العدالة والسلام والحرية تحت ظل انتقال ديمقراطي سلس ، إلّا أن هذه الآمال العريضة تبعثرت في عواصف هوجاء أثارتها أخطاء القوى السياسية وإجراءات انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي الذي ولد من رحم الموازنات الإقليمية والدولية. ورغم النضال المستميت والتضحيات المستمرة لإرجاع عجلة الانتقال الديمقراطي إلى مسارها المنشود ، إلّا أن تلك العواصف وصلت ذرة الهياج والضراوة التي بإمكانها إضعاف الثورة وتأجيل انتصارها ، خاصة في ظل تراخي المجتمع من القيام بواجباته في حماية المحتجين السلميين من آلة الانقلاب المميتة ، علاوة على إخفاقات القوى السياسية وعدم مقدرتها على قراءة مجريات الأحداث بصورة مواكبة ومخاطبتها بخطط فعالة وحنكة سياسية مواكبة . وهذه الأخيرة ، أي إخفاقات القوى السياسية، هي الكارثة الكبرى التي ظلت تسدد للثورة لطمات مميتة منذ بدايتها حتى لحظات كتابة هذا المقال. فبدلا عن التضامن وتعزيز القوة النضالية لهزيمة الانقلاب ، واصلت تلك القوى ديدن التشرذم والخلافات التي وصلت قمة ذروتها بخروج القوى المدنية من ائتلاف الحرية والتغيير ، وقطيعة الحزب الشيوعي مع ذات الائتلاف.
بالإشارة إلى تلك الإخفاقات والخلافات ، تزعم الدكتورة أماني الطويل ، مديرة البرنامج الأفريقي في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية ، أن النخب السياسية السودانية تأثرت بالمفاهيم السياسية القديمة التي لا تخاطب متطلبات الراهن السياسي. فبناء عليه وضعت لبنات الفترة الانتقالية على النمط القديم مما جرها إلى الاستقطابات الخلافية التي انتهت بانقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر المشؤوم . وجاءت مزاعم الدكتورة الطويل خلال مداخلتها في ندوة أقامها المنبر الثقافي السوداني لجنوب كاليفورنيا في الثالث والعشرين من يناير المنصرم تحت عنوان ، "تعقيدات المشهد السياسي وفرص نجاح المبادرة الأممية،" حيث توقعت عدم نجاح المبادرة الأممية التي ترمي إلى وضع حلول عاجلة للأزمة السياسية التي تتجه نحو الانزلاق. وهذا فضلا عن توقعاتها المتشائمة التي تشير إلى تسارع الراهن المتأزم إلى وضع أشبه بالمشهد السوري ، في حال عدم تدارك القوى السياسية الخطر الماثل ومخاطبة الأزمة بمتطلبات الراهن السياسي الذي تلعب فيه بعض القوى الدولية والإقليمية دور بارزا ، تبعا لمصالحها في السودان.
وخير دليل يدعم مزاعم الدكتورة الطويل ، الخلافات الراهنة وإخفاقات القوى السياسية التي صاحبت أداءها السياسي منذ بداية مفاوضات الوثيقة الدستورية الكارثية حتى ظهور المبادرة الأممية. والسبب الأساسي في ذلك، افتقار هذه القوى للبرامج الوطنية الهادفة التي تقود العمل السياسي والإداري إلى المسار المنشود . وفي المقابل تتمترس كل قوة أو حزب سياسي حول برنامجه الحزبي الضيق لتحقيق أكبر قدر من المكاسب الحزبية والشخصية التي تلهث وراءها قيادة كل قوة أو حزب . وهذا المفهوم الضيق للعمل السياسي يقود بدوره إلى بيئة سياسية موبوءة بالخلافات والمكايدات والتشتت والاحتقان السياسي التي ظلت تصيب النخبة السياسية السودانية بوعكة إدمان الفشل القاتل ، كما يزعم الدكتور منصور خالد . فعلى سبيل المثال ، عند ما انطلقت المفاوضات المباشرة في الثالث من يوليو 2019 بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي التي انتهت بالوثيقة الدستورية المعيبة ، خاض مفاوضو القوى السياسية المفاوضات في وضع هزيل وأقل تنظيما وأضعف رؤية من مفاوضي المجلس العسكري الانتقالي.
والسبب في ذلك ، تكالب سلسة من المكاسب الشخصية والحزبية الضيقة التي أضرت بالموقف التفاوضي، بوقوع قوى نداء السودان فريسة لمخططات الاستخبارات الإمارتية قبيل أشهر من التوقيع على الوثيقة الدستورية ، كما يزعم الأستاذ محمد مصطفى جامع في مقال نشر على موقع "نون بوست" بتاريخ الثالث من نوفمبر 2019 ، تحت عنوان "الشيوعي السوداني يهاجم الإمارات والسعودية ويتمسك بمبادئ الثورة." فيه أشار الأستاذ جامع إلى "التواصل المكثّف لدولتي الثورات المضادة مع عدد من قيادات قوى الحرية والتغيير أثمر عن مهادنة عدد من أحزاب الحرية والتغيير للشق العسكري ، كما أخذ هؤلاء يكيلون المدح لقائد مليشيا الدعم السريع محمد حمدان دقلو الذي ينظر إليه السودانيون على أنه المخطط والمدبر الذي أعطى الأوامر لميليشياته التي تورطت في مجزرة القيادة العامة بكل ما فيها من أهوال .. قتل واغتصاب وتعذيب لم يتصوره إنسان." وتردد في مواقع التواصل الاجتماعي آنذاك ، أنباء عن تلقي قيادات ائتلاف نداء السودان دعما ماليا سخيا من دولة الإمارات رغم نفي هذه القيادات لتلك المزاعم .
ولكن بغض النظر عن صحة تلك المزاعم أو بطلانها ، فإن تحركات نداء السودان المريبة تعتبر جزء من سلسلة إخفاقات تحالف الحرية والتغيير التي عصفت بالفترة الانتقالية. ومنذ تلك اللقاءات السرية ، كما يزعم الأستاذ جامع ، "لُوحظ كذلك التطبيع الواضح من الأعضاء المدنيين في مجلس السيادة مع حميدتي الذي هو في نظر الثوار المتهم الرئيس في مجزرة القيادة إلى جانب باقي أعضاء المجلس العسكري ، فهناك 3 من مدنيي السيادي شاركوا في تدشين قافلة صحية لقوات الدعم السريع." غير أن الثوار بنظرتهم الثاقبة ، كانوا "لا يرون في حميدتي ولا البرهان رئيس المجلس العسكري إلا مجرد انقلابيين كانوا جزءًا لا يتجزأ من نظام البشير ، وينتظرون الفرصة الملائمة للانقضاض على السلطة كاملة ، وتنفيذ مخططات دول محور الشر السعودي الإماراتي بعدما رضخوا مؤقتًا للأمر الواقع وقبلوا بتقديم تنازلات لقوى الحرية والتغيير في الاتفاق الدستوري الذي تمّ توقيعه في السابع عشر من أغسطس 2019." وبالفعل قد حدث ما توقعه الثوار منذ التوقيع على الوثيقة الدستورية.
ولا شك أن قوى نداء السودان قد أكلت الطعم وانهارت أمام استفزازات الدراهم الهائلة ، ولم تنتبه لنصائح المغفور له ، شيخ المناضلين والقانونيين ، علي محمود حسنين الغالية للثوار المعتصمين أمام القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية قبيل وفاته في الرابع والعشرين من مايو 2019 ، حيث نصح القوى الثورية بعدم التفاوض مع المجلس العسكري الانتقالي ، وطالبها بتكوين حكومة مدنية بكامل هياكلها واستلام السلطة. ولكن للأسف الشديد ، لم تجد نصائح الخبير القانوني والسياسي آذانا صاغية، كما نوه البروفيسور مهدي أمين التوم في مقال نشر في صحيفة الراكوبة في السابع والعشرين من نوفمبر الماضي تحت عنوان ، "أانتكاسة مُبَيَّتَة أم خَلَل ثَوري،" حيث علق متحسرا على إجراءات انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر بقوله "لم نسمع نصيحة المرحوم علي محمود حسنين ، فذهبنا لحتفنا بأرجلنا وقَبِلنا مبدأ ألتفاوض مع العسكريين ، والثورة في أوج قوتها وعنفوانها ، فسلَّمنا دقوننا للجنة البشير الأمنية ، في أجواء إملاءات ورجاءات ، بدل أن نفرض عليها إرادتنا الثورية ، ونستلم منها السلطة كاملة غير منقوصة ودون عَوَار أو حِوار !!! ."
بصرف النظر عن قبول المفاوضات والشراكة مع المجلس العسكري الانتقالي ، كان لعدم توحد رؤى القوى السياسية وتجاهلها لنصائح الأستاذ حسنين بتكوين حكومة انتقالية مدنية بكامل هياكلها دور سلبي كبير في تشكيل بيئة المفاوضات وتوجيهه لصالح المجلس العسكري الانتقالي . وآنذاك، كان المجلس العسكري الانتقالي في أضعف الحالات وأشد الارتباك الذي انتابه من جراء الضغط والحصار الدولي والإقليمي الذي ترتب على مجزرة القيادة التي صاحبت فض الاعتصام في الثالث من يونيو 2019. فبينما كان المجلس العسكري الانتقالي على كامل الاستعداد لتسليم السلطة لحكومة مدينة، اكتشف هزال القوى المفاوضة وافتقارها لأدنى البرامج لقيادة الفترة الانتقالية . وكانت تلك مفاجأة غير متوقعة ، حيث شجعت العسكر على التمسك بالشراكة وتحقيق مكاسب غير متوقعة ، تمثلت في قيادة مجلس السيادة لمدة 21 شهر من جملة ال 39 شهر للفترة الانتقالية ، علاوة على أيلولة مسؤولية وزارتي الدفاع والداخلية ، بينما اكتفت القوى السياسية بالقيادة الموعودة لمجلس السيادة في ال 18 شهر المتبقية ، والعمل كموظفين للسلطة العسكرية بدلا عن شركاء.
وليس ما ذكر أعلاه فحسب ، بل منحت الوثيقة الدستورية التي وقعت في أغسطس 2019 مجلس السيادة صلاحيات كبيرة تجعله مسيطرا ومعرقلا لكل إجراء لا يصب في صالح أجندته الخفية . في مقال نشر على موقع المعهد المصري للدراسات بتاريخ الخامس عشر من أغسطس 2019 تحت عنوان ، "الوثيقة الدستورية السودانية : قراءة قانونية سياسية ، نوه الدكتور المحبوب أبو على مشيرا إلى أن الوثيقة الدستورية منحت مجلس السيادة "اختصاصات كبيرة حقيقية وليست شكلية سواء بصورة منفردة أو مشتركة مع مجلس الوزراء بعضها يتعلق بقضايا سيادية مثل إعلان الحرب أو الطوارئ ، وبعضها تشريعي يتعلق بإصدار قوانين حال غياب المجلس التشريعي." وهذا فضلا عن إعلاء شأن قوات الدعم السريع كمنظومة عسكرية موازية للجيش بدلا عن تفكيكها ودمجها فيه ، وإعطاء المجلس السيادي مسؤولية "إعلان حالة الحرب بناء على توصية مجلس الأمن والدفاع ، وتتم المصادقة من خلال المجلس التشريعي الانتقالي خلال 15 يوم." ولم تتوقف المسؤوليات المجلس عند هذا الحد ، بل امتدت "لإعلان حالة الطوارئ بطلب من مجلس الوزراء ، وتتم المصادقة عليه من المجلس التشريعي خلال 15 يوم" .
والأخطر مما سبق الذكر، أيلولة رعاية مفاوضات "السلام مع الحركات المسلحة بالتنسيق مع الحكومة،" إلى المكون العسكري ، مما سهل له إبرام صفقات سرية مع هذه الحركات أثناء مفاوضات جوبا لسلام السودان ، ولم تنتبه القوى السياسية ما جري خلف الكواليس حتى تكوين هذه الحركات كيان الحرية والتغيير جبهة الميثاق التي نسقت وشاركت في انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي . في تغريدة نشرت على "توتير" في الثامن عشر من الشهر الجاري تحت عنوان ، "عن خروج الحركات المسلحة من الخرطوم واتفاق جوبا السري ، "تحت التربيزة"، أسدل الدكتور فخرالدين عوض حسن عبدالعال الستار عن اتفاقيتين توصل إليهما الأطراف المتفاوضة في جوبا ، "واحدة معلنة وأخرى سرية كشفت عنها كثير من العناصر التي شاركت في المفاوضات .. وأطلق عليها مناوى " اتفاقية تحت التربيزة." وتتلخص أهم بنود اتفاقية جوبا السرية "تحت التربيزة "في"عدم الكشف عن المجازر التي حدثت في دارفور والمسؤولين عنها ، وعدم تسليم الحكم للمدنيين كما نصت الوثيقة الدستورية واستمرار البرهان رئيسا".
فنواة الانقلاب الحالي هي ما "حدث في جوبا بين حميدتي والحركات المسلحة في مرحلة أولية ومن ثم انضم له الكباشي لاحقا". وللأسف الشديد كان مفاوضو الشق المدني حينذاك مغيبين تماما من مجريات الأحداث ، وبل لم يفطنوا في فترة ما بعد الاتفاق لكل المؤامرات والدسائس التي كانت تحبك باستمرار لعرقلة مسيرة الانتقال الديمقراطي ودمغ المكون المدني بالفشل ، كما تردد على لسان البرهان وحميدتي باستمرار حتى المرحلة الصفرية التي انتهت بالانقلاب. ومن ضمن سلسلة إخفاقات القوى السياسية ، هو عجزها التام الذي ظهر في التعامل مع ملف التطبيع مع إسرائيل ، كما يزعم الأستاذ عبد الرحيم ضرار في مقال نشر في صحيفة الشرق في السابع من فبراير 2020 تحت عنوان ، سيناريوهات خطيرة لمضامين اللقاء .. ما الذي اتفق عليه البرهان ونتنياهو؟ ، مشيرا إلى حدوث "جدل حاد وتباين في المواقف شهدته الأوساط السودانية في أعقاب اللقاء الذي جمع رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أوغندا في الثالث من فبراير الجاري."
فبعد الجدل والارتباك السياسي الكبيرين حول انتهاك مجلس السيادة لصلاحيات مجلس الوزراء المنوطة بالعلاقات الخارجية ، اتفقت قوى الحرية والتغيير على رفضها القاطع للتطبيع مع إسرائيل ، وحجمت رئيس الوزراء الذي كان يزمع في التعامل مع الملف بحكمة وذكاء . في رده على الانتقادات التي وجهت له آنذاك ، أصدر البرهان بيانا أعلن فيه عن لقائه مع نتنياهو مؤكدا فيه على إقدامه على هذه الخطوة "من واقع مسؤوليته بأهمية العمل الدؤوب لحفظ وصيانة الأمن الوطني". ووصفت تقارير صحفية وتحليلات سياسية، كما يزعم الأستاذ ضرار "أن قبول البرهان باللقاء يمثل مجازفة سياسية ودبلوماسية كبيرة. في الوقت الذي فتحت فيه أبواب التساؤلات والسيناريوهات على مصراعيها عما تم الاتفاق عليه بين البرهان ونتنياهو ، خصوصا وأن اللقاء جاء في الوقت الذي أعلنت فيه إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية عن خطة السلام المعروفة ب "صفقة القرن ، والتي وافقت عليها عدد من الدول العربية ، كما تزامن اللقاء مع تحركات عواصم خليجية إلى إحداث اختراق في المشهدين الليبي واليمني بمساعدة من الجيش السوداني وبعض المليشيات القبلية".
وما يعزز توقعات الأستاذ جماع ، حيث استطاع البرهان أن يمهد لانقلابه بتأمين قوى كبرى داعمة له كالجانب الإسرائيلي الذي له تأثير كبير في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط ، بينما وللأسف الشديد ظلت القوى السياسية تقرأ من كتب القرون الأولى التي لا يترجم محتوياتها متطلبات الراهن السياسي في الشرق الأوسط . والطامة الكبرى التي صاحبت الانقلاب هي الابتزاز السياسي الذي أوقع فيه السيد عبد الله حمدوك ، رئيس الوزراء المستقيل من لدن برمة ناصر ، رئيس حزب الأمة القومي وبعض القيادات الحزبية ، والذي انتهى بحرق السيد عبد الله حمدوك سياسيا وتنحيه عن منصبه. آنذاك ، كان الانقلاب على وشك الانهيار بسبب العزلة الدولية والإقليمية والضغط الثوري ، إلا أن تبني برمة ناصر ورفاقه الاتفاق السياسي الابتزازي نفخ له روحا جديدا . وما أقدم عليه برمة وناصر ورفاقه ، ربما لعدم صمودهم أمام استفزازات دولارات الذهب المنهوب ، هو ديدن الانتهازية البغيضة والخيانة التي اتسمت بها القوى السياسية السودانية منذ ميلادها.
فخلاصة ما ذكر أعلاه ، يعزز وصف قيادات القوى السياسية السودان بدراويش السياسة الذين لا يفقهون شيئا في السياسة سوى المكاسب الشخصية والحزبية الضيقة التي لا تخاطب جذور الأزمة السياسية السودانية . وهذا الوصف يعززه مزاعم الدكتور منصور خالد في كتابه "النخبة السودانية وإدمان الفشل،" التي تلقي اللائمة على دور النخبة السياسية والمثقفة في التدهور السياسي ، والاجتماعي ، والفكري ، والأخلاقي في السودان. وما يمارسونه هؤلاء ، كما يزعم خالد ، ليس له صله بالسياسة ، إنما نفاق وانتهازية فكرية واقحام انتهازي للقضايا الدينة في القضايا السياسية المبدئية للوطن . فاليسار السياسي يشوبه التصلب الفكري الذي يدور في فلك القومية العربية والقضية الفلسطينية بمفهوم القرن قبل الماضي ، بينما تشوب اليمين السياسي الانتهازية الدينة التي تدور في فلك الإسلام العروبي بمفهوم ذات القرن . ولم يقدم أحد الفريقين مشروعا وطنيا يستثمر التنوع الثقافي والتاريخي والجغرافي والمعرفي لهذا الوطن ، ليخاطب متطلبات جيل العصر التكنولوجي ، بينما تطورت مدن وعواصم كثيرة في الإقليم بفضل موارد السودان الغنية بالثروات.
والسبب في ذلك ، لأن عاصمة اللآت الثلاثة هي الوحيدة التي ظلت تناطح الكيان الإسرائيلي لصالح القومية العربية والإسلام العروبي ، لتلحق مصير نظيراتها كبغداد ودمشق وطرابلس وصنعاء التي أصبحت كبيوت الأشباح. يا حبذا إن تعي هذه النخبة جيدا ، أن القضية الفلسطينية ليست الأولوية التي تشكل مصالح السودان الوطنية العليا. ومن يريد أن يحرر فلسطين ، فليذهب إلى ميادين القتال مع حماس وكتائب عز الدين القسام وغيرها من حركات المقاومة الفلسطينية ، ولا ينبغي لأحد أن يجعل من السودان ميدانا لمنازلة الكيان الإسرائيلي . والسبب الرئيسي لتراخي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من إسقاط الانقلاب هو أن هذه القوى الدولية لا تدعم أي قوة سياسية معادية لإسرائيل تأتي في سدة الحكم ، طالما أمن وسلامة إسرائيل من ركائز سياساتها الخارجية تجاه الشرق الأوسط . وبالتالي السلطة الانقلابية التي تقيم علاقات قوية مع إسرائيل هي الأقرب للدعم لحكم السودان ، وخاصة في ظل تشرذم وخلافات القوى السياسية الراهنة.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.