سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
السودان منكوب بجيش انقلابي ومليشيا.. وقوى مدنية متشاكسة! حميدتي يتعامل مع العالم ومن يتواصلون معه كزعيم سياسي وعسكري، ويقدم لهم المساعدات، وخاصة في إجلاء رعاياهم موفراً لهم الحماية، ويبرز صورته كرجل دولة مسؤول
منذ انطلاق المعارك في السودان بين جيش الدولة، (تخصص انقلابات؛ عام 1958، 1969،1989، وانقلابات أخرى فاشلة)، وبين قوات الدعم السريع، (مليشيا صنعها البشير، وهناك مليشيا سابقة عليها)، السبت 15 أبريل/ نيسان الجاري، وحتى كتابة هذا المقال، الاثنين 24 أبريل، فإن ملامح الأوضاع في السودان البلد المنكوب والدولة الفاشلة تبدو كالتالي: قتال مستمر دون توقف، أو حل، أو حسم، بين رأسي السلطة العسكرية؛ البرهان وحميدتي، وهما حاكما البلاد وحدهما، دون وجود الشريك المدني، مفجر الاحتجاجات ضد البشير ونظامه، بعد انقلابهما على هذا الشريك وطرده من السلطة في أكتوبر/ تشرين الأول 2021. الجيش والدعم السريع، المتقاتلان على السلطة والنفوذ، دعما البشير، ولما وجدا أن السيطرة على الثورة ضده مستحيلة، قاما بالتضحية به، في 11 أبريل 2019، والبشير نفسه انقلب على الحكومة المنتخبة برئاسة الصادق المهدي زعيم حزب الأمة، في 30 يونيو/ تموز 1989 فيما سُمي ثورة الإنقاذ. والجيوش لا تقوم بثورات، هي تقمع الثورات، لكنها في البلاد العربية مُغْرمة بإطلاق وصف ثورة على إطاحتها بالحكومات المدنية. انقلاب 23 يوليو 1952 في مصر تمت تسميته ثورة، وفي انقلابات العراق وسوريا واليمن وليبيا والجزائر وموريتانيا، خلعت الجيوش عليها وصف ثورات، بينما الثورات الشعبية خلال ربيع العرب في موجتيه 2011، 2018 تسميها قوى الحكم التقليدية التي تستمد وجودها من الانقلابات مؤامرات وخيانات وفوضى ودمارًا لبلدانها! الرصاصة الأولى مع إطلاق الرصاصة الأولى، ومصدرها قوات الدعم السريع، فإن هذه المليشيا روجت أنها تسيطر على العاصمة الخرطوم والمناطق الرئيسية في السودان، وبدا من خطابها أن زعيمها محمد حمدان دقلو (حميدتي) اقترب من جلوسه على كرسي السلطة منفردًا ويتجهز لإعلان خطابه الأول بعد انقلابه على شريكه الجنرال عبد الفتاح البرهان الذي وصفه حميدتي بأنه مجرم وإسلامي متطرف وطالب بتقديمه إلى العدالة. الجيش من جانبه قدم خطابًا مناقضًا أكد فيه سيطرته على الخرطوم والسودان كله، وبشر بالقضاء على قوات الدعم السريع، واعتبرها مليشيا متمردة، وأنه لا عودة لما كان قبل إطلاقها الرصاص، وقرر حلها، واستدعى ضباطه المنضمين إليها. التخطيط للانقلاب الواضح اليوم أن المليشيا كانت قد سيطرت على مراكز مهمة في الخرطوم، وهذا يرجح تخطيطها للانقلاب، وإعداد خريطة تحرك لابتلاع السودان، ليكون حميدتي هو الحاكم الوحيد متجاوزًا إخفاقات خليفة حفتر في ليبيا الذي فشل طوال سنوات في بسط نفوذه على كامل التراب الليبي رغم الدعم العسكري والمالي الخارجي الهائل له، والأغلب أن هدف حميدتي سيواجه الفشل أيضًا مع فوارق طبيعة الحالتين الليبية والسودانية. الجيش السوداني ظل طوال الأيام الثمانية الماضية يقاتل المليشيا ويحاول إبعادها عن المراكز العسكرية والمناطق التي سيطرت عليها في العاصمة والولايات، وقد نجح جزئيًّا في إيقاف تمددها ومنع سيطرتها على الخرطوم والولايات الرئيسية، وهو يدافع ويهاجم في الوقت نفسه، وتساعده على ذلك ميزة امتلاكه سلاح الطيران، والمثير أن المليشيا تمتلك مضادات جوية تستخدمها ضد طائرات الجيش التي تقصف مواقعها، فهي مسلحة جيدًا، وترقى إلى مستوى جيش نظامي، وهي مدعومة خارجيًّا. مخاطر حرب استنزاف مع توالي الأيام دون حسم أي من الطرفين للقتال وفشل ثلاث اتفاقات هدنة؛ فإن الكارثة أن تستمر المعارك في شكل حرب استنزاف طويلة الأمد، وفي هذا المسار فإن مليشيا حميدتي مدربة ومؤهلة لهذا النوع من الحروب ولديها خبرة من قتالها في دارفور، فقد ظهرت وتضخمت وتسلحت وحصلت على المال والامتيازات بسبب دورها في دارفور، وقد ارتكبت جرائم حرب، وجرائم تطهير عرقي في هذا الإقليم. وجرائم دارفور أمام المحكمة الجنائية الدولية، والبشير وعدد من أركان نظامه مطلوبون أمامها، وهذه المليشيا لا ينبغي أن تكون بعيدة عن المحاسبة الدولية، لكن اللافت أن كل المسؤولين العرب والأجانب -ومنهم مسؤولو الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي- يتواصلون مع حميدتي مثل البرهان، ويعتبرونه طرفًا مكافئًا لقائد الجيش وحاكم السودان، وهناك من يخطب وده ويتعامل معه باعتباره شريكًا سياسيًّا رئيسيًّا، في حين لا يهتم أحد بالقوى المدنية المفترض أنها تقود الفترة الانتقالية، ومن المؤسف أنها قوى منقسمة متشاكسة ليست موحدة على كلمة جامعة، وفيها تيارات إقصائية، تريد إزالة تمكين النظام السابق، لتقوم بالتمكين لنفسها. حميدتي وتحدي مصر وأبرز مفاجأة في الأسبوع الأول من الحرب أن حميدتي يأسر قوات مصرية عمدًا، وينشر صورًا وفيديوهات مهينة لها، ويتحفظ عليها، ولا يُسلمها مباشرة للقاهرة، وإنما للصليب الأحمر الدولي، بوساطة من الإمارات، وهذا يعني أنه غير قلق من مصر، وفعلته فيها تحدٍّ لها، وأنه طرف رئيسي في السودان، ولا يمكن تجاوزه؛ لا من مصر، ولا من غيرها. وحميدتي يتعامل مع العالم ومن يتواصلون معه بوصفه زعيما سياسيًّا وعسكريًّا، ويقدم لهم المساعدات، وخاصة في إجلاء رعاياهم موفرًا لهم الحماية، ويبرز صورته على أنه رجل دولة مسؤول حريص على السودان الديمقراطي المدني، وأنه يحارب إسلاميين متطرفين، وعلى رأسهم البرهان، والمؤكد أنه لا يؤمن بالديمقراطية، وهو نفسه صناعة الإسلاميين وشريكهم، وخطابه الحالي انتهازي يهدف لبيع نفسه للعالم لأجل الحكم، حتى لإسرائيل نفسها. الشعب السوداني المظلوم الأوضاع المعيشية في السودان في ظل الحرب تجاوزت مستوى الوصف بأنها مأساوية وكارثية، فهي كانت لا تُطاق قبل الحرب، فما بالنا اليوم والقتال مستعر، وحتى الهروب فهو محفوف بالمخاطر. الشعب السوداني مظلوم بين جيش اعتاد الانقلابات والأوضاع تزداد تدهورًا تحت حكمه، وبين مليشيا صارت جيشًا وتقاتل بشراسة وتمارس الانتهاكات ضد المواطنين، ومليشيا أخرى وضعت سلاحها مؤقتًا، وصراعات عرقية وقبلية وسياسية وحزبية وطائفية طبعت الحياة في السودان منذ استقلاله عن مصر عام 1956، ولا يزال قابعًا في هذا المستنقع حتى اليوم، وليس انفصال الجنوب هو التهديد الوحيد والأخير لترابه الوطني، فالاقتتال الحالي ومجمل أزماته خطر جسيم على أرضه ووحدته واستقراره. المصدر : الجزيرة مباشر *كاتب وصحفي مصري، وعضو نقابة الصحفيين المصريين، وكاتب بالعديد من الصحف والمواقع الإلكترونية، وشغل موقع مدير تحرير جريدة "الأحرار" المصرية.