تفجرت ، منذ اندلاع الحرب ، حملة قوية جامعة ، شملت أطياف متعددة وقوى متنوعة، من اجل إيقاف الحرب . كان صوتها هو الأعلى والأقوى ، داخل وخارج السودان . كما ظهرت دعوات لمناصرة الجيش السوداني ، واخري مناصرة للدعم السريع . يثير أنصار دعوة دعم الجيش الا حياد بين الجيش والجنجويد ، ويصفون دعاة حملة لا للحرب بأنهم اعداء للجيش ، وان الجيش هو عماد الدولة ، وهزيمته تعني انهيار الدولة تماما . سأحاول ، في هذا المقال مناقشة تلك القضايا والاطروحات المدافعة عن الجيش ، وتري ضرورة دعمه في كل الأحوال ، لهزيمة الجنجويد . في الجانب الآخر يري مناصرو الدعم السريع ان الجيش نفسه هو جيش مؤدلج وكتلة كبيرة من مؤيدي الدعم السريع تنطلق من موقف اثني واقليمي . ما يهمني هنا ، هو مناقشة دعاة دعم الجيش. أعتقد ، انه من الأهمية ، ان نحدد ، بوضوح تام ، ان دعوة لا للحرب ليست موقف حياد سلبي، بمعنى الجلوس على الرصيف ، في لا مبالاة بالحرب بل هي ، حملة إيجابية ، وموقف متكامل وأمين من قضايا الوطن والثورة ، يؤمن بان الحلول العسكرية والعنف لن تحل مشاكله ، بل تزيدها تعقيدا ، وتؤدي لدمار ما هو هش أصلا . والأهم ان تجارب السودان مع الحروب الداخلية المتعددة والمتفاوتة ، مهما تطاولت وتوسعت ، تنتهي بالتفاوض السلمي وعقد الاتفاقيات. تشكل معرفة تاريخ الجيش ، وطبيعية تكوينه ومناهج عمله، مدخلا ضروريا لتحليل ومعرفة الازمة الوطنية الشاملة ، ودور الجيش فيها ، وما هو مطلوب منه مستقبلا ، لدعم تأسيس حكم مدني كامل . بدون الدخول في تفاصيل تاريخية معروفة، فالجيش (قوة دفاع السودان آنذاك) تم تكوينه من الدولة الاستعمارية لتنفيذ أهدافها من السيطرة على بلادنا . تشكلت عقيلته ومناهجه وأدوات عمله على تحقيق تلك الأغراض الاستعمارية. واستمر الوضع ، بعد الاستقلال ، بلا تغيير حقيقي . وأهم سمات هذه المؤسسة ان تركيبتها الداخلية تنقسم لقسمين اساسين: أولهما القادة وكبار الضباط ، وثانيهما صغار الضباط والجنود . فالقسم الأول يرتبط ، برباط لا انفصام له ، مع الطبقات والفئات الحاكمة ، عن طريق عضوية مجالس ادارة المؤسسات الاقتصادية الكبرى ومنح المشاريع الزراعية ورخص الشركات العامة وغيرها من التسهيلات ، بالإضافة للرواتب الضخمة وبقية الامتيازات النقدية والعينية . هذا الوضع يجعل قيادة الجيش بعيدة عن قضايا الشعب ، وتنحصر همومها في الحفاظ على مكتسباتها ، والعمل على زيادتها . من الجانب الآخر نجد ان صغار الضباط والجنود هم جزء اصيل من جماهير شعبنا ، يعانون مثلها من الصعوبات الاقتصادية والمعيشية وتردي الخدمات . ولهم مصلحة في التغيير داخل المؤسسة العسكرية ، وعلى نطاق الوطن. لذلك علينا ، معرفة ، ان قادة الجيش لا يفكرون الا في مصلحتهم المباشرة ، ومصالح الفئات الاجتماعية في قمة جهاز الدولة الإداري والفئات التي تسيطر على الاقتصاد . وجزء اصيل من هذه المصالح الحفاظ على الوضع القائم ، ورفض ومقاومة أي محاولة للتغيير. تعتمد كامل تركيبة وقوام الجيش على التسلسل التراتبي، والضبط والربط ، والطاعة العمياء للقادة . هذا الهيكل يعطي القادة سلطات مطلقة في التدخل في المسائل المدنية والسياسية ، باسم الجيش رغم انه تم لتقديراتهم وحساباتهم الخاصة . خطورة ذلك انه عندما طلب عبد الله خليل من عبود استلام السلطة، لم يعترض أحد داخل الجيش . وعندما قام نميري ، بكل ما قام به ، لم يعترض أحد . وعندما فصل البشير الالاف الضباط والجنود لم يعترض أحد . والأكثر ايلاما ، انه عندما انشا البشير الدعم السريع ، وجعله فوق الجيش ، لم نسمع صوتا. رغم ان البشير كان مهموما بحماية نفسه فقط . كل ذلك يجعلنا نميز بين قيادة الجيش، من جانب ، وكامل المؤسسة العسكرية ، من الجانب الآخر . الآن ، وبعد هذه المقدمة المختصرة جدا والسريعة ، هل للجيش مصلحة في هذه الحرب المدمرة ، وغالية الثمن، التي تم زجه فيها من فئات معادية لثورة الشعب ، وهل هزيمة الجيش تعني انهيار الدولة السودانية ؟ سأحاول طرح بعض النقاط ، لعلها تفيد في الحوار مع أنصار دعم الجيش ، الذين لا نشك في وطنيتهم وحدبهم على الوطن، لكن طرحهم يتم بمنظور لا نتفق معه: * الحديث عن انهيار الدولة إذا هزم الجيش، جانبه الصواب. فالجيش الأمريكي انهزم في فيتنام ، بعد حرب مريرة ومدمرة ، فلجا للتفاوض والانسحاب. الجيش السوفيتي انهزم في أفغانستان. انهزم الجيش المصري امام الجيش الإسرائيلي في حرب 1967م ، والجيش الألماني انهزم في الحرب العالمية الثانية ، وهي أكثر الحرب تدميرا على مر التاريخ ، ولم تختف المانيا من خارطة العالم . وهناك عشرات الأمثلة من العراق ، ولبنان ، وغيرها . لكن الأهم ان سقوط الدولة يعني الفوضى العامة وانعدام الامن وانهيار الاقتصاد وهروب رؤوس الأموال والكفاءات والقوى المنتجة. وهذا ما يحدث حاليا ، بدون هزيمة الجيش . وسيزيد اضعافا مضاعفة إذا استمرت الحرب. * فشل الجيش في حسم المعارك بعد قرابة الثلاث أشهر ، وكلما استمرت الحرب سيفقد المزيد من قدراته القتالية وتسليحه ومونه وأدوات حركته . هذه مظاهر خطيرة لمستقبله نفسه، في ظل انعدام مصادر التمويل والتسليح الخارجي ، وفي ظل إصرار قيادة الجيش على معاداة الايقاد ومنظمة الامن الافريقي ، ومنبر جدة ، وحتى الأممالمتحدة. * سدد المواطن السوداني اثمانا باهظة من جراء هذه الحرب ، حتى الآن . تعرض لأهوال انعدام الامن ، وخسر اعماله ومنازله ومدخراته ، والأهم خسر أرواح اعزاء ، ماتوا بسبب رعونة الطرفان المتحاربان . ومن يدعون للحرب يريدون أن يدفع شعبنا أكثر من ذلك . بل الذين أشعلوا الحرب يقولون بأنهم على استعداد للمواصلة ، حتى لو تدمرت البلد ، حسب ما جاء على لسان قائد القوات البحرية السابق، وكما تكرر في خطبهم، خلال التحضير لإشعال الحرب. * حرب الجيش السوداني ضد الحركة الشعبية ، ورغم اندفاع الالاف الشباب الإسلامي ، الذي تم خداعه بانها حرب مقدسة ، ورغم قذف الاف الشباب المدني الى محرقة الحرب. انهزم الجيش وقبل التفاوض ونفذ مطلب الحركة الشعبية الأساسي بالانفصال ، ولم تنهار دولتنا. * يتوهم من يعتقد بان ارغام الدعم السريع ، رغم صعوبة ذلك، على الخروج من الخرطوم ، هو نهاية الحرب. فالدعم السريع يملك قدرات قتالية كبيرة في غرب السودان. خروجه من الخرطوم يعني ، ببساطة ، حرب أهلية بلا نهاية . فحرب الحركات الدار فورية ، وهي أضعف بمرات ومرات عن الدعم السريع ، استمرت من 2003م الى 2020م . زد على ذلك ، معرفة الدعم السريع، الحقيقية والعميقة، بجغرافية ومكونات دارفور الاجتماعية . وإذا تم ذلك فهو بداية تفتت السودان، بقيام دويلات ، واحدة في دارفور، والأخرى في جبال النوبة ، واخريات في النيل الأزرق والشرق … الخ. * هناك مثل شعبي بليغ بلهجة دارفور "انتي ربيتي دابي في بيتك، الا كان عضاك ترى ما تكورك". * موقف لجنة البشير الأمنية ، المجلس العسكري الانتقالي ، المكون العسكري ، وأخيرا سلطة الامر الواقع الانقلابية ، هي التي فعلت كل شيء منذ انقلابها، على البشير، في 11 أبريل 2019م ، للانفراد بالسلطة وانهاء ثورة ديسمبر ، وكان الدعم السريع طرفا أساسيا في كل تلك المؤامرات، وعندما اختلفت المصالح ، قررت الحركة الاسلاموية التخلص من حميدتي ، وهو ما جر بلادنا لكل ما يحدث الآن. وهذا صراع لا يهمنا ، من قريب او من بعيد ، ما يهمنا حقا، ويشكل اهم اولوياتنا ، هو استكمال مهام وشعارات ثورتنا. * إذا، افترضنا ، انتصار الجيش غدا. من الذي يقوم بإصلاح كل البنيات الأساسية المدمرة ، والمنازل المخربة ، والمصانع والمتاجر المنهوبة. أثبتت التجربة المريرة ، وعبر السنين، ان الجيش لا يفكر الا في نفسه. فقد رأينا كل جيوس العالم تنبري لمساعدة شعوبها في الكوارث ، ولم نر ذلك من الجيش الحالي. لذلك لا نتوقع ان يفعل أي شيء لإصلاح ما دمرته حربه اللعينة ، وسيدفع المواطن اثمان واثمان. * كان الهم لقيادة الجيش هو حماية مصالحها ، عن طريق الانفراد بالسلطة ، وقمع الجميع وبعنف. فهل نتوقع ان تغير من هذا السلوك بعد الحرب ، ام ستزداد شراسة ونهما لتعويض ما خسرته ، واسكات أي صوت عقلاني يصدر من القوى المدنية . وسنرى ، حينذاك ، حكما عسكريا أكثر عدوانية وأشد بطشا . ونعود القهقري لحكم الفرد المطلق. نلخص ونقول ، ان مصلحة الجيش السوداني بكامله ، وليس مصلحة قيادته ، هو انهاء الحرب ، والوصول لاتفاق، بوساطة دولية. وان احتياجاته لإعادة التسليح والتدريب ستكون أصعب ، إذا استمر في الحرب، بمراحل مما هي عليه قبل الآن . وان هدفنا الأساسي والمقدم ، هو اصلاح الجيش بخلق جيش قومي واحد بعقيدة وطنية ، وتصفية كل المليشيات ، وابعاد ومحاسبة الذي تسببوا في الحرب المجرمة. هذا هو الطريق الوحيد والمنطقي للأمام ، والا فالدمار الشامل.