هل يوُلدُ الإنسانُ وفي داخله بذرة الشرّ أم أن الظروف هي التّي تحوّلُ الإنسانَ الخيّر الفطرةِ إلى شرّير؟ وهل هناك فاصلٌ بيّنٌ وجليّ في هذا الزمان بين الحقيقةِ والوهم أم إنه ثمة منطقةٌ رماديةٌ بينهما؟ وما دورُ الإعلامُ الفاسد في قلب الحقائق؟ وإلى أي مدَى يمكنُ أن يحوّل الاضطهادُ الإنسان المسالم إلى وحشٍ حقيقي؟ ولماذا يجدُ الوعي الجمعي للطبقات الفقيرة ملاذاً شرهاً في الخرافات والأساطير؟!! هذه بعضُ الأسئلة الفلسفية العميقة التي تتناولُها التحفةُ السينمائية "أقوى الرجال " للنجم العربي العظيم " نور الشريف " والمخرج " أحمد السبعاوي "، والمأخوذةُ من قصة " وحش طوروس " للأديب التركي " ولد محمد نصرت نيسين" – الشهير باسمه الأدبي " عزيز نيسين " – وقام بكتابة السيناريو لها " بسيوني عثمان "…. في بداية الفيلم يقومُ لصٌ ما بسرقة فيلا ..يصادفُه شخصان و هو يهمّ بالهرب فيقوم بقتلهما بدمٍ بارد…ننتقلُ بعدها إلى مسرح جريمةٍ أُخرى لنرى فيه رجلين مغمى عليهما …نعرفُ من الحوار الدائر بين أفراد الشرطة أن الرجلين تعرّضا لصدمةٍ نفسيةٍ عنيفةٍ …في صباح اليوم الثاني يفيقُ الرجلان و يقدمان صورةً أسطوريةً عن دخول "الوحش" – مجرم المدينة الأشهر – إلى مكتبهما و كأنه جاء من الهواء…و يتفقان على أنه خارق القوة و ذو عينٍ واسعةٍ يغطيها حاجبٌ كثيف … تركّز كاميرا المخرج على صورة عين الوحش كما رسمها رسّامُ الشرطة بقلم رصاصٍ في ورقة بيضاء … و في اللقطة التالية ينقلنا المخرجُ إلى داخل بصٍ مكتظٍ بالركّاب حيث تركُّز الكاميرا على عينٍ واحدةٍ لمحصّل التذاكر "زكي الطيب" – نور الشريف – و نحسُ منذ الوهلة الأولى بالشبه الكبير بين عينه و عين الوحش ..بعدها يعيدُنا المخرجُ إلي مركز الشرطة حيث تحكي سيدةٌ منهارةٌ كيف أن عيني الوحش واسعتان و تقدحان شرراً و فوقهما حاجبان كثيفان ..يكملُ رسّامُ الشرطة رسم العينين …تركزُ كاميرا المخرج عليهما ثم تنقلُنا بعدها مرةً أخرى إلى داخل ذات البص لتقدّم لنا عن قرب عيني المحصّل "الزكي الطيب" الاثنتين لندركَ حينها الشبه الهائل بين عينيه و عيني الوحش …هذا الشبه الذي قلب حياة " زكي " – بطل الفيلم – رأساً على عقب … في شقةٍ متواضعةٍ يملكها الرجلُ الغني " شطّة بيه " يعيشُ "زكي الطيب" مع ابنه " رضا" وزوجته " عليّة " (قامت بدورها النجمة الجميلة "سهير رمزي").. يقدّمُ المخرجُ لقطاتٍ سريعةً تلخّصُ لنا حياة "زكي الطيّب" وكيف يراه الناسُ المحيطون به … فحين تدبُ داخل البص خناقةٌ بين راكبٍ عجوزٍ و شابين متهورين و يتدخّلُ سائقُ البص لنجدة الراكب يكتفي "زكي" بالانزواء جانباً و المشاهدة مما يغضبُ السائق فيطالب باستبدال المحصّل الجبان بآخر يمكنُ الاعتمادُ عليه…..يحاولُ صاحبُ المصبغة إغواء زوجة " زكي " التي تعملُ لديه في المصبغة …كما يغازلُها علناً في الزقاق عاملُ المقهى الذي يقدّمُ الطلباتِ للزبائن رغم افتقاره لكل مقومات الوسامة و الأناقة و السُلطة … أيضاً يقومُ بائعُ الفواكه في الحارة بطرد " زكي " حين يحاولُ أن ينتقى كيلو فواكه منه بحجة أنه زبونُ فقير و لا داعي له … يستدعي " شطّة بيه " "زكي " إلى مكتبه حيث يخبرُه برغبته في تحويلِ العمارة إلى مخزن ويمهله شهرين فقط للعثور على سكنٍ بديل …من كل هذه المواقف ندركُ أن الناس – باستثناء زوجته وابنه – لا يقيمون لزكي وزناً البتة بل يتعاملون معه ك" تمومة عدد ".. مثلما ندركُ أن "زكي" لم يثر يوماً على ظلمٍ طاله …تغضبُ زوجته منه و هي ترى خنوعه لأوامر صاحب الشقة بالرحيل فتقول له باستهزاء " يا راجل دا حتّى القطة ليها ضوافير بتخربش بيها "….و طوال الفيلم لا نرى له صديقاً و لا نراه يزورُ أحداً ..و كلما ضاق صدرُه بالناس لجأ إلى هواية الصيد ( لكنه لا يضعُ طعماً في الصنارة لأنه لا يحتملُ رؤية مقاومة السمك للصنارة) … يقومُ " أبو شنب" – فتوة الحي و الذراع الأيمن لشطة بيه – برمي أثاث " عم سيّد" – جار زكي في العمارة – و يعتدي عليه بالضرب جهاراً نهاراً ..يحاول" عم سيّد" الدفاع عن نفسه و أسرته لكنه يخفقُ بسبب كبر سنه وخوف الناس من سطوة "أبو شنب"…يعودُ "زكي " من عمله ليجد "عم سيّد" باكيًا و أثاثه مبعثرًا في الأرض فيكتفي بالصمت العاجز كعادتِه ..يمعنُ "أبو شنب" في إذلال "زكي" و يأمرُه بإشعال الكبريت له كي يدخّن فيرضخ "زكي" و وجهُه يرتعشُ خوفاً… تقومُ أخت "زكي" – ميرفت – بزيارته برفقة زوجها "حسام" …يراهما "أبوشنب" فيشجّع اثنين من رجاله على الاعتداء عليهما كسراً لشوكةِ "زكي" ليغادرَ الشقة …تستغيثُ "ميرفت" بأخيها فلا يحرّك ساكناً …بل يلوذ بغرفته …و في مشهدٍ عظيمٍ يقف "زكي" في منتصف غرفته ..و يمسكُ برشاشٍ وهمي …و يسحبً مقبض أمانه و يبدأُ في إطلاقِ الرصاصِ بشكلٍ دائري على الجميع ( نسمعُ صوت رصاصٍ حقيقي ) …تركّزُ كاميرا المخرج على وجه "نور الشريف" الغاضب ..المحتقن …و نتابعُ تبدل قسماته تدريجياً إلى الضحك الهستيري في لقطةٍ عبقرية بحق …تهمُّ " عليّة " بالدخول إلى الغرفة فترى زوجها ممسكاً برشاشه الوهمي فتخرج و هو تهز رأسها بدهشة و استغراب … تقبض الشرطةُ على "زكي" باعتباره الوحش.. فيحاول الدفاع عن نفسه أمام الشهود الذين تكالبوا عليه في قسم الشرطة ويخاطبُ الضابط بعبارةٍ كثيفة تلخصُ حياته كلها " يا فندم أنا ما حضرتش في يوم اجتماع، ولا اشتركت في حزب ولا عمري اتكلمت في السياسة، ولا بقرا جرايد.. أنا حتّى ما عنديش بطاقة انتخابية، والكورة ما بشجعاش عشان ما حدش يزعل مني " … تتعاملُ الجرائد والتلفزيون والمسؤولون في الدولة مع " زكي" باعتباره الوحش الحقيقي.. فيًزجّ به في السجن حيث يلتقي هناك " بعم سيّد" الذي سُجن بسبب قتله لشابٍ حاولَ الاعتداء على أسرته في المقابر.. يخضعُ السجناءُ ل "زكي" له ويقدمون له الهدايا والإتاوات.. بل ويقومُ أحدُهم بنسج الأشعار في بطولاته مطلقاً عليه لقب " أبو الرجال".. يأخذُ "زكي" بنصيحة "عم سيّد" بأن يلبس للناس عباءة الوحش … و في مشهدٍ يجسّد دور الإعلام الظالم في قلب الحقائق يقوم دكتور علم نفس شهير في لقاء تلفزيوني بتصوير "زكي" كشخصٍ تعرّض للاضطهاد لفترات طويلة في طفولته فاتخذ الشرُ في دواخله شكل رغباتٍ مكبوتة تنفجرُ في شكل جرائم يرتكبُها دون أن يعي بها …يُفرَجُ عن "زكي" بسبب تضارب أقوال الشهود و عدم كفاية الأدلة ..لكن المدينة كان قد وقعت في وهمِ أنه الوحش الحقيقي …فتتغيّر معاملةُ بائع الفواكه لزوجته و يقوم شطة بيه و أبو شنب بتأثيث شقته …ويعيدان أسرة " عم سيّد" إلى شقتها … و حين يعودُ إلى عمله يقومُ الركّاب بالقفز من نوافذ البص …بل يموتُ راكبٌ بدينٌ أثناء محاولته الهرب من نافذة البص الضيقة …و يقوم سمسارة مواقف العربات باللجوء إلى زكي لحل صراعاتهم و يغدقون عليه الأموال .. بل طال الشكُ في " زكي" حتى زوجته وأخته…. وفي لحظة تراجيدية السخرية والوجع يقفُ "زكي" أمام المرآة ويقول " معقول أكون أنا الوحش وأنا مش عارف؟" …. يقومُ بعض أعوان الوحش الحقيقي باختطاف "زكي الطيب" و اقتياده إلى مغارة في الجبل حيثُ يلتقى بالوحش الحقيقي الذي يفاجأ بخوف "زكي" منه فيأمر بإعادته إلى بيته و هو يتنبأ بإصابته بالجنون قريباً …تقبض الشرطةُ على مساعد الوحش الحقيقي و معه صورةٌ للمجرم الكبير وتقوم بنشرِها في الصحف …يثورُ "شطة بيه " و " أبو شنب" و يشعران أن "زكي" خدعهما و سخر منها فيهاجمان شقته ومعهما نفرٌ من الأعوان …يلوذ "زكي" بقوقعة جبنه و هو يرى الأشرار يعيثون في بيته فساداً ..ثم لا يلبث أن يتفجرُ بركان غضبه فيقوم بضرب الأعوان و حرق وجه "أبو شنب" و بل و قتل " شطة" داخل عربته …ثم يتجه الى الجبل حيث يلتقي بالوحش الحقيقي …هناك يدورُ بين الاثنين حوارٌ يقولُ فيه الوحش إن "زكي" يذكرّه بشبابه و أنه جاء إلى القاهرة نقياً من الريف لكن قسوة المدينة حولته إلى وحش ( ثمة تشابه هائل بين شخصيات الوحش و زكي الطيب و عم سيّد )…… يقومُ "زكي" بقتل الوحش بعد معركةٍ عنيفةٍ بينهما …ليقوم المخرجُ بعكس صورة "زكي" في مرآةٍ مهشمةٍ كنايةً عن تشظي عالمه القديم قبل أن يقول لنفسه عبارة الختام " وداعاً يا زكي الطيب "… تميّزت الحوارات في الفيلم بالكثافة والعمق والبعد عن الإسفاف والتطويل الممل.. فأضاءت عوالم الشخصيات وأغنتها.. لا يمكن ُ بأية حال من الأحوال الحديثُ عن الفيلم دون التطرق للأداء العظيم لنور الشريف.. وتحكمِه العبقري لملامح وجهه ونبراتِ صوته ولغة جسده …وتسخيره كل ذلك في رحلة تحوله من "زكي الطيب" – والرمزيةُ واضحةٌ في الاسم – الذي يرضى بكل شيء – وكما يشيرُ اسم ابنه رضا – إلى وحشٍ حقيقي صنعه الاضطهادُ وجهلُ الناس وطغيان الإعلام وغياب العدالة …كما لا يمكنُ إغفال دور الموسيقى التصويرية العبقرية التي ألفها الكبير " جمال سلامة " والتي ساعدت في نقل انفعالات "زكي" طوال رحلة الفيلم … تقتضي الأمانة أن أشير أنني لم أحب اسم " أقوى الرجال " …فهو اسمٌ مباشرٌ وفجّ ويفتقرُ للعمقِ ولا يُجاري عظم الأحداث.. لكن يبقى الفيلم تحفةً سينمائيةً ماتعة تتعرضُ لأسئلةٍ عصرية عميقةٍ بدأت بها هذا المقال … …………. مدينة حيدر أباد – الهند 12/7/2023 [email protected]