سعت جاهدة بأن تخفف من حدة شوقها إلي رؤياه ، وكلفها بمقابلته ، فهي قلقة ما في ذلك شك من هذه المشاعر الغامضة التي تنتابها تجاه شخص تجهله كل الجهل ، ولا تظن أنه سيتاح لها أن تعرفه في يوم من الأيام ، لتمتع ناظريها من وسامته ونضارته وروائه ، ينبغي أن تدعو نفسها إلي شيء من القصد والإعتدال ، وأن تترك هذه النزعة التي أخذت تعم وتشيع ، يجب أن تقاومها وتتصدى لها ، وتنزه نفسها عنها تنزيها ، نعم عليها أن تكف عن الاستئناس ببرنامجه الذي يقدمه في التلفاز وتوطن نفسها على ذلك ، وتتذكر أنها متزوجة من رجل أحاسيسها نحوه متفاوته بين المقت والإعجاب ، صحيح أن اعجابها بزوجها ضئيل شديد الضآلة لا تكاد تحسه ، ولكنه يصل إلي أقصى ما يمكن أن ينتهي إليه من هدير وحدة وعنفوان ، إذا أحسّت أن زوجها المكتنز العضلات ، الصارم التقاطيع ، عاشقاً لها ، وبها شغوفا ، ولكن الزوج البليد الحس ، الخامد العاطفة ، المطبق الشفاه ، لا يجثو أمامها ويلاطفها ويذعن لها أشد الاذعان إلا إذا كان يروم أن يختلي بها ، وما أن يقضي وطره ، ويرضي شهوته ، حتى ينتزع نفسه من بين يديها وقد بلغ بها الأسى والتأثر أقصاه ، حينها تود لو أنها تستطيع أن تقتل نفسها ، فما هي عنده إلا جسد مستعر يثير كوامن فحولته ليس إلي اتقائه من سبيل أما عاطفتها المتأججة فهي بعيدة كل البعد عن دائرة عنايته واهتمامه ، لقد حاولت كثيراً أن تلفت انتباهه إلي عواطفها الجياشة التي يزدريها ويستخف بها أشد الاستخفاف ، حتى أخذت تمقت الالتفات والتنبيه ، ووجدت ضالتها في ذلك القسيم الوسيم الفارع الطول الذي يخضع الناس له ، ويتأثرون به ، وهو يلح في اللوم ، ويسرف في العتاب ، لكل زوج أو عاشق لا يرفق بمحبوبته، ويلاطفها ويغازلها على الدوام ، كانت تتكلف الجهل والغفلة ، لسيطرة هذا الرجل الذي لا تراه إلا عبر الشاشة على تفكيرها ، الرجل الذي تحسه ، وتشعر به ، وتتخيله مقبلاً إليها ، ناثراً حولها الأزهار ، هامساً في أذنها بأروع الأشعار ، حملها على العمل والجد ، بعد أن أمضت عدة سنوات بعد زواجها في الدعة والخمول ، لقد عادت زهرة ناضرة متوهجة بعد أن كاد بريقها أن ينطفيء ، وردة صارعت الجفاف والذبول لأربعة أعوام ، حتى أمست تعتقد أن الزواج موئل شقاء وليس مصدراً للسعادة ، ولأنها لا تستطيع أن تمضي في هذا العنت ، طلبت من زوجها الطلاق ، وحينما ألحّ في الرفض خلعته وتركته ذاهلاً لا يعرف ما هي الأسباب التي دفعتها لاتخاذ هذا المنحى ، أقبلت ريهام على حياتها الجديدة فرحة بها مبتهجة ، بعد أن طوت صفحة زوج تستطيع أن تحصي ألفاظه التي تفوه بها على مدار الأربعة أعوام ، لم يكن طليقها مازن سيئاً ، ولكنه رجل يركن إلي الصمت ويتدثر به ، ولا يفصح لها عن دخيلة نفسه إلا إذا رام شيئاً من ضرورات الحياة ، هو الان محزون يغالب حزنه ، وحتى ينسى ريهام التي كان يحبها دون أن تنم عنه امارة تظهر هذا الحب ، حرص على الزواج من أخرى بعد أسبوع من مفارقتها اياه ، لقد غاظها فعلاً زواج طليقها بعد عدة أيام من قرار المحكمة التي حققت لها ما ترجوه ، ولكنها استأنفت فرحتها ، وسارت في دروب واقعها الجديد ، وهي راسمة على محياها ابتسامة آسرة مضيئة ، احتملت فيها في غير ضعف ولا وهن ، عبارات اللوم والاستهزاء ، ونظرات الشك والاستعلاء ، ولم تأثر فيها الزوابع والأنواء ، كما لم تسقط فريسة في شباك أصحاب العبث والأهواء ، وانقضى عامها الأول ، وقد دار حول فلكها أقطاب في القمة ، أذاقتهم ألواناً من الذل وأخضتعتهم لضروب من الخسف ، لأنهم لم يشرئبوا إلا للذة ، ولم يطوفوا إلا على أهداب الجسد. استطاع غسان حسن مقدم البرامج الشهير أن يعيش على أسلات قلمها ، وفي بطون مذكراتها ، التي تدونها عشية كل يوم ، كانت أحيانا تقرظه بعبارات المدح والثناء ، وتمطره في أخرى بحمم القدح والهجاء ، لأنه قد تمادى في التغزل في ممثلة استضافها ، أو في غانية تباهى باكتشافها ، هي تعلم حق العلم أنها لن تظفر من كل هذا بشيء ، فغسان الذي يفوق عدد عشيقاته الاحصاء ، تلح في عتابه ، وتسرف في استعطافه ، في هدأة كل ليل ، لأنه لم يترك لها أن تعيش حياة هادئة مطردة ، يمنعها عن الافصاح له بمكنون صدرها انخزال نفسها ، وخور قلبها ، ولأنها تعي أن سجية العفاف عنده كليلة مثلومة الحد ، وهو حتما إذا رأها أو أصاخ بسمعه لها ، فسوف يختزلها في اطار المتعة ، وهي تربأ بنفسها عن ذلك ، إذن لا مناص لها سوى أن تكتم هذا الحب المضني في سويداء فؤادها ، وأن تتكلف الجلد ، لقد عاشت ريهام متألفة مع أتون خصام محتدم بين عقلها الذي يأمرها بوأد مشاعرها الجوفاء ، وقلبها الذي يمنيها بالضجيج والعجيج ، لهذه الأسباب لم تتخذ ريهام وسائل للوصول إلي مبتغاها ، ولم تسعى قط أن توقع غسان في حماها ، رغم جمالها الآخاذ ، وفتنتها الطاغية ، ولكنها دأبت على اظهار شغفها بغسان لصويحباتها حتى تنامى هذا الشغف لصاحب الشأن الذي اعتاد على سماع هذه القصص التي كان ينصت لها في رتابة وملال ، ولكن ما أن شاع اسم صاحبة هذا الكلف حتى صفق في جزل، وابتسم في سعادة ، فمن تكن لها عشقاً محضا ، وغراما عنيفا ، صدت في اباء وشمم ، أحد أصدقائه الأثرياء الذين يقارفون أعظم الآثام وأضخمها ، هذا الصديق الفاسق سبق له أن سلب غسان فتاة كان مولعاً بها ، ونشر ذلك في كل صقع وواد، لقد حان للنجم الفارع الطول أن يثأر لكرامته المهدرة ، وأن ينتهي سجاله مع ذلك العتل إلي غايته. التقى الوجيه غسان بريهام في بهو الشركة التي تعمل بها وفاجأها بضروب من اللوم والتأنيب ، لأنها لم تخبره بحقيقة مشاعرها تجاهه ، ولم تهاتفه أو ترسل له خطابا يفصح عن عواطفها النبيلة ، ظلت ريهام تحاول أن تبقى متماسكة أمام هذه الوقائع التي لم تكن في البال ، فلم يدر في خلدها مطلقاً أن يأتي يوماَ ترى فيه حبيبها شاخصاً أمام بصرها ، استطاعت بعد لأي أن تبقي دموعها على مأقيها ، وأن تنتزع صوتها من محبسه ، وأن ترد في خفوت واضطراب بأنها لم تكن ترى طائلاً من ذلك ، كان غسان يضغط على يدها في شدة ، وعينيه العابثتين تصولان في حواشي جسمها البض ، ولم يتركها إلا بعد أن ظفر بميعاد، وحفظ في ذاكرة جواله الباهظ الثمن رقم هاتفها السيار. استدار غسان وقد وقع في نفسه اعجاب بجمال ريهام ورشاقتها وأناقتها وطريقتها في التفكير ، أما ريهام فقد انتحت مع صديقة لها ناحية وأخذت تحادثها في مواضيع شتى ، وذاكرتها تسترجع كل لحظة أمضتها مع غسان في حديث الذّ من الشهد ، وأنضر من الذهب ، اعتادت ريهام على رؤية غسان بعد لقائهم الأول ، والتحدث معه لساعات طوال عبر الهاتف الجوال ، ولكنه انقطع عن زيارتها بعد اسبوعين ، فاضطربت لذلك أشد الاضطراب ، وجزعت لذلك أشد الجزع ، ترددت ريهام على كل الأماكن التي يمكن أن تجد فيها غسان بعد أن باءت كل محاولات سماع صوته عبر هواتفه بالفشل ، ولكن دون جدوى ، وبعد عدة أيام ظهر رقم غريب على شاشة جوال ريهام التي ردت في لهفة وأنفاسها تتسارع ، فتسمع صدى صوت حبيبها غسان آتياً من بعيد ، فتبكي العاشقة المكلومة في حسرة، وتتنهد في فرح ، أخبرها غسان بعد أن نجح في تهدئتها أنه قد حصل على اللوتري ، وأنه سوف يمكث في الولاياتالمتحدة حتى يحصل على الجواز ، وأنه سوف يرسل لها قريباً حتى تمكث معه عدة أسابيع في الولاياتالمتحدة ، فأجابته في حزم أنها لا تستطيع أن تشاركه حياته دون مسوغ شرعي ، ويبدو أنه تذكر جمالها وروعتها وحزّ في نفسه أن يغادر بلده دون أن يغنم من ذلك بحظ ، فأجابها في اندفاع المحبين أنه ليس رافضاً لهذا الأمر ، ولكن يجب أن نعطي لأنفسنا فترة من الوقت حتى يتخذ كل منا القرار الصائب ، فضحكت ريهام في تهكم وأخبرته بأنها قد اتخذت قرارها منذ أن كانت في معية زوجها الأول ، وصارحته بأنها لن تستطيع أن تثق فيه ، أو تتطمئن إليه، إلا بعد أن يعقد قرانه عليها ، وأنها لن تتورط معه في دنيئة أبداً ، لم يسع ريهام بعد انهاء مكالمتها مع غسان إلا أن تغتبط بحزمها ، وقوة شكيمتها ، أمام من تحب ، فهي تعلم أن غسان لا ينشد إلا أن يغريها ، ويملك عليها أمرها ، فيلهو بها أيام قد تقل أو تطول ، وبعد ذلك ينصرف عنها ، ويتركها لحياة كلها جحيم ، ما تخشاه تلك العاشقة المتدلههَ التي تعلم أن حبيبها سوف يتمهل بعد هذه المكالمة ، ويتيح لنفسه التفكير بعمق في الكيفية التي يوقععها بها في براثن قبضته ، أن تضعف لشدة ما قاومت ، وأن تتهاوى لشدة ما كبحت من جماح عاطفتها ، هي إذن ماضية في الرفض ، وممعنة فيه ، حتى لا ينالها غسان بأذى ، وهو عازم على الا يتعجل الفوز ، ويظهر آثامه ومخازيه ، يكفي أن يعزف على ايقاع عاطفته الملتهبة ، وأن يخبرها بعزمه على الزواج منها ، متى ما وطئت أقدامه أرض الوطن ، فتنطلي عليها تلك الحيلة ، فتخر وتستكين ، فيزدريها ازدراءاً منكراً بعد أن يجوب في أقاريز مدنها العصية ، ويعتلي صهوة خيولها الأدهمية ، وتنطلق ألسنة الناس بالكلام ، والناس غلاة مسرفون في هذه الأمور ، هي لا تعلم بأنه ضيق الذرع بهذه الحياة المنتظمة التي تجرى على وتيرة واحدة ، فحياته محطة تلتقي فيها الأجناس المختلفة، والطبقات المتباينة ، فعلاما يتجشم مشقة الاحتشام؟ ويزدرد علقم الفضيلة، ويرضى بحياة خاملة متواضعة ، لا خناً فيها ولا فجور. لم يسلك غسان هذا السبيل من قبل مع طرائد اللذة ، وصريعات النشوة ، فهو ليس في حاجة إلي بذل الجهد ، وإجهاد النفس ، لأشباع نزواته ، فما أن يُخطِر الحسناء بما يقاسيه من علل الغرام ، حتى تتجرد عن أسلحتها وتمضي معه في استسلام إلي مخدعه ، أما ريهام فلم تُجدي معها الأصوات الهامسة ، والمس الرقيق ، فهي تريد أن تستأثر بحياة من تحب ، ولا يرضي غرورها إلاّ أن تكون وحيدة خالدة عنده وهي شامخة عزيزة الجانب ، همّ غسان أن يتحول عنها ، ويعصم نفسه من وصمة الاخفاق التي لم يتجرعها من قبل ، فهو يدرك جلياً أنها تسوس أمرها معه بالحزم ، وتستقبل كل حركاته وسكناته بالتحفظ ، ولكن ماذا يصنع مع كبريائه الذي له مكبر ، وبه مختال ، وعليه حريص ، وكيف لا يجعل صديقه اللدود تمزق قلبه الحسرات ، بعد أن يؤوب إلي حصنه وقد أحال أسطورة ريهام إلي هباء تذروه الرياح. إنه أمر لا غرابه فيه ، ولا مشقة في فهمه ، أنا عدت من أمريكا من أجل غاية واحدة ، كنت أحسب أنها قمينة بأن تجعل ثغرك يومض بالابتسام ، ولم أكن أعتقد قط أنها سوف تملأ نفسك جزعاً وهلعا وارتيابا ، فأنت إذن تنظرين إلي زواجي منك بأنه بلاء نازل ، وشر ماثل ، وعذاب متصل ، وقفت ريهام واجمة تنظر إلي قرص الشمس وقد أزفّ على الرحيل ، عبر نافذة غرفتها الشاهقة ، وقد تعاضدت الأسباب ، وتكالبت العلل ، لتذرف كل ما في عينيها من دموع، وغسان يزداد اطمئناناً إلي خطته ، وبراعة في ثمثيله ، كلما أبصر مظاهر اللوعة والشجن على محيا ريهام التي تشفق على نفسها من هول الفراق ، الذي لم يجد غسان شيء من المشقة والجهد في طرحه ، لقد ظهر غسان على سجيته ، فهو يساومها بين نزولها على طلبه ، أو الاختفاء التام عن حياتها ، يخيرها بين الموت والحياة ، لقد أشاع الكآبة على قلبها الزاخر بحبه ، حينما أخبرها بعزمه ، الذي كله اعوجاج والتواء ، لم تكن مهيأة لشيء كهذا ، لم تكن تظن أن حبيبها سوف يتجاهل ويجحد ويحارب ما يجعلها تنقطع إلي السعادة ، وتنعم بالهناء ، أمهل غسان ريهام أياماً ثلاثة قبل أن يغادر منزلها للرد عليه ، ومضت تلك الأيام التي لم يزورها النوم فيها إلا غرارا ، لتجيبه راضخة على مبتغاه بالبكاء. عاشت معه مطمئنة مبتهجة عدة أشهر في شيكاغو ، ولكنها اضطرت إلي العودة إلي وطنها حينما استفحل الخلاف بينهما بشأن التوأمين اللذان تورط غسان في رفضهما ، والتشكيك في صلتهما به ، هي الان تجوب المحاكم في وطنها وبلاد العم سام ، وبحوزتها ورقة يتيمة بخط غسان يغالي العربيد النزق في انكارها. [email protected]