ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التجاني الطيب .. يا لها من حياة ..جيله حقق مكاسب كبيرة رغم انه لم يحكم قط.. وخلق وعيا انتج بلدا كان من الممكن ان يكون من الرواد فى المنطقة
نشر في الراكوبة يوم 27 - 11 - 2011

« لقد كنا مجرد شباب بسيط من عائلات فقيرة، ولكن ليس أمامنا وأمام الحزب إلا أن ننظم الجماهير الحديثة من طلاب وعمال ومزارعين ومثقفين وطلائع النساء. وكان على الحزب الشيوعي أن يطرح إلى جانب القضايا الوطنية العامة أيضا قضايا هذه الفئات ولذلك فقد نظم هذه الفئات فى نقابات واتحادات مزارعين ونقابات عمال واتحادات طلابية وخلافه». كان هذا مجتزأ من مقال كتبه التجاني الطيب، فهل يلخص فيما افني هذا الرجل العظيم «حياته»؟. فلم يغيب الموت قط بالاربعاء رجلاً عادياً عاش كما الآخرين، لقد حمل طائر الموت النقاد «التجاني الطيب» ?لذي قدم كل ثانية من عمره المديد للانتصار لقضايا الشعب السوداني، فى رحلة طويلة وعمل دؤوب سخر فيه «الشيوعي الملتزم» من نواميس الدنيا غير العادلة وعاديات الحياة. فمنذ أن تفتحت عيناه في مدينة شندي في منتصف العشرينيات لم يتبع الرجل غير طريق النضال ضد المستعمر الذي كان يجثم على صدر البلاد ممسكاً بخناقها، حارب كما رفاقه حين ذاك الجهل السائد والتخلف والامية والاستغلال جنباً بجنب ضد الانجليز، لم يركن الى المسالك التي اتبعتها اسرته باتحاديتها المشهودة ؛ وللمفارقة كان احد اعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الوقت ?لذي حظي فيه شقيقه احمد الطيب بابكر بعضوية المكتب السياسي للحزب الاتحادي الديمقراطي الاصل، وتشاء الاقدار ان يرحل الشقيق الاتحادي قبل اشهر معدودة من رحيل التجاني الطيب. يشير القيادي فى حزب البعث السوداني محمد وداعة الى التأثير البالغ لنشاط ذلك الجيل وفى قلبه التجاني، على المجتمع السوداني فى تلك الفترة حالكة الظلام، ويقول الرجل ل» الصحافة» ان رواد الحزب الشيوعي هم اول من نادى بالاشتراكية والمساواة بين المرأة والرجل وصيانة حقوق العمال والضعفاء. وان دعوتهم التي سرت فى المجتمع السوداني لعقود علاوة على كفاحهم من?اجل تحقيق هذه الاهداف، اديا الى المكاسب التي تحققت لتلك الفئات، والى التنوير الذي سرى فى الشعب. واشار وداعة ان ذلك الجيل من الرواد جيل التجاني حقق وساهم فى مكاسب كبيرة،رغم انه لم يحكم قط، وخلق وعيا داخليا واقليميا انتج بلدا كان من الممكن ان يكون من الرواد فى المنطقة.
النضال النظيف
عرّف التجاني معنى النضال النظيف، ومغزى ان يعيش السياسي مؤمناً بقيمة ما يحمل من افكار، حتى المنعطف الاخير، وبأن العالم صار في ظل العولمة وغياب قوة لجم يسارية للرأسمالية، كما ابرز هو فى «الميدان»، خراباً اجتماعياً وأخلاقياً وسياسياً. عالم بلا صراخ ضد الظلم والعدوانية واستغلال الإنسان. بلا أشباح تخيف الرأسمالية، وبلا قيمة أخلاقية إيجابية. وبين التجاني قدرات كامنة فى ذوات الناس على الصبر واحتمال اغراءات التنازل والسقوط من شرفة الضمير. معرياً بجدارة وبهدوء ما شاب به البعض من جماعة «سياسيين بلا عهود» ج?هر العمل السياسي، وقدم بذلك تجربة نادرة لجيل يتطلع لتجارب سياسية نظيفة يقتدى بها، وهو يهم بالانخراط فى مسار طويل وملهم اختطه شرفاء هذه البلاد من كافة الاحزاب والقوى الاجتماعية الحية.
ميت الداء
كتب احد الشباب الذين جرعهم التجاني تجارب العمر وخبرة النضال النظيف ابان منفاهما الاثنين فى قاهرة المعز، خلال الاحتفال الاسفيري بثمانينية معلمه فى مدرسة الكادر،» شاكر»، كتب عن التجاني، فقال: انه مناضل نادر المثال .. ميت الداء .. سياسى لا يخون شعبه .. يعمل فى صمت وتجرد ونكران ذات .. لا تتنازعه الأهواء .. واضح الموقف وجليه فى سياسة ترزح تحت الشبهات .. ثابت الموطن، ثاقب البصيرة، حاضر الذهن فى أحلك اللحظات .. هكذا تحدثنا سيرته الماثلة بيننا فى العمل العام، ارتبط أسمه بطيب الذكر والنضال المجيد منذ نعومة أظفا? الحركة السياسية الوطنية فى السودان .. المناضل التجانى الطيب بابكر من جيل الرواد .. وأحد أبرز مؤسسي الحزب الشيوعي السوداني .. مناضلاً حق للحركة الوطنية أن تفخر به كرائد من روادها وابناً شرعياً لها يمثل نضوجها الواعي وسدرة منتهاها قدوة ومثالا للمناضل المبدع الملتزم تجاه قضايا أمته، متنزهاً طوال تاريخه الثر المستمر عن عرض المطمع .. ارتبط فى ريعان شبابه بالنضال الوطنى ضد المستعمر حتى تحقق الجلاء .. وساهم مع رفاقه عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ وغيرهم من الرعيل الأول فى تأسيس الحزب الشيوعي السوداني .. وهو?منذ دراسته الجامعية فى جمهورية مصر العربية فى أواخر أربعينيات القرن الماضي وحتى الآن فى حراك دائب، وهمة لا تفتر، وهامة لا تنحني، انحيازاً كاملاً منه للطبقة العاملة وجمهور الكادحين فى الأرض، مناضلاً اممياً صلباً وغيوراً لا يخاف فيما يعتقد لومة لائم .. ولا تعرف عنه سقطة طوال مسيرته العطرة، قائد يعبر عن تكامل السلوك الشخصي وسمو المباديء التي ينادي لها. عرفته محاضر الحزب الشيوعي السوداني بالاسم الحركي شاكر، متصدياً وفي الصدارة لمهام وطنية جسيمة ومحفوفة بالمخاطر في القلب النابض لليسار السوداني وعميده الحزب الشي?عي .. عماداً وعميداً لكليهما دون منازع .
ولازم هذا الشاب التجاني طيلة وجوده فى القاهرة ابان نشاط التجمع الوطني المعارض، ولكن شهاب الدين عبد الرازق عبد الله محمد وهو من سطر الكلمات الانفة ظل مقيماً بالقاهرة؛ بعد مغادرة التجاني اياها فى اول رحلة بعد توقيع اتفاق القاهرة بين الخرطوم ومعارضيها، وهو ما ظل يعلن عنه التجاني الطيب طيلة الفترة التي سبقت التوقيع، وهذا ربما يدلل على قراءة صائبة للرجل لمستقبل العمل المعارض بالخارج حينذاك فى ظل توقيع اتفاق نيفاشا. بقي شهاب وكثيرون قابعون فى منافي اخرى لان قناعتهم ظلت بأن الجبل تمخض فولد فأرا.
ونقل لنا صحافي سوداني عاصر عمل المعارضة السودانية بالخارج، ان التجاني ظل اثناء المفاوضات بين التجمع والخرطوم ساكناً كالريح فى يوم قائظ، ولم يخرج عن هذا السكون الا فى المؤتمر الصحفي الذي اعقب التوقيع على اتفاق القاهرة مباشرة برعاية المخابرات المصرية. فقد استحسن «شاكر» السؤال الاخير الذي قدمه احد الصحفيين السودانيين حول ميوعة صياغة احد بنود الاتفاق، وهو بند يتعلق بالسياسات الاقتصادية التي طبقتها الانقاذ وافقرت الشعب السوداني، وفتقت النسيج الاجتماعي. ورغم ان صياغة السؤال تقدح فى التزام التجمع بمقرراته الرافضة?لسياسات التحرير الاقتصادي، وتماهيه فى هذا الاتفاق مع موقف الانقاذ منها، فان التجاني لم يجفل من التعبير عن سعادته بالسؤال، ولم يتردد فى اظهار عنايته بالاحاطة بمقدم السؤال، بعد الهجوم الشرس الذي تعرض له من وفد الخرطوم، وبعد المخاشنة اللفظية من رعاة الاتفاق.
وقدم التجاني طيلة وجوده بالعاصمة المصرية دروسا ذات قيمة للشباب من كافة التنظيمات والالوان، عرفوه باختلافهم باسم «عم التجاني»، ولن ينسى هؤلاء بالطبع مواقف التجاني وتجلياته المدهشة فى اكثر من مكان. ومنها رفضه تلقي « الفاتحة» من سفير الخرطوم اثناء عزاء عام اقامته هيئة التجمع لرفيقه وعضو الهيئة الراحل محجوب سيد احمد، وايضاً رفضه فى مكان ومناسبة اخرى مصافحة زميل سابق مِن مَن انحازوا لمايو خلال احداث السبعينات الدامية، حيث لم يكتف التجاني بذلك بل صاح فى الرجل وسط الحضور: «نحن يا فلان بينا دم نسيتو .. دم».
وبعض هؤلاء مازال يتداول مشهداً نادراً لسياسي سوداني معارض ضمن منظومة دمغتها اليه الخرطوم الاعلامية ب» معارضة الفنادق»، وهو يركض امام اعينهم بحيوية العشرينات ليلحق بترام غادر محطته بعد نشاط سياسي هام، هذا فيما لاذ غالبيتهم بالجدران ومداخل المتاجر اتقاء البرد، وطلباً لسيارات الاجرة!. ولم يصل التجاني الطيب قط الى احد مناشط المعارضة السودانية يمتطي تاكسياً، ولم يشاهد على الاطلاق وهو يغادرها بمعية من يمتلكون او يستأجرون سيارات، ظل الرجل غادياً ورائحاً صديقا وفيا للمركبات العامة على ازدحامها، وملتصقاً بالطبقة ?لكادحة من المصريين، حتى فى تحلقهم حول «عربيات الفول والطعمية».
عمل مع التجاني ابان فترة التجمع الوطني المعارض القيادي البعثي محمد وداعة، فقد كان وداعة عضوا مؤثرا فى سكرتارية التجمع فى الداخل، وارتبط بصلات واتصالات كثيرة مع الرجل من موقعه فى هيئة القيادة بالقاهرة، يقول وداعة عن تلك الفترة ان التجاني كان قلب العمل المنظم فى التجمع، مشيرا الى حرصه الشديد على تجويد الاداء ابتداء باللغة الاعلامية والسياسية المستخدمة، وانتهاء بتحديد المواقف بصورة دقيقة لا لبس فيها. ويشهد وداعة ان فترة قيادة التجاني للعمل لم يكن فيها ضبابية لان الرجل كلف بعناية بالغة بصياغة القرارات حتى امكن? فهم القرارات فى كل المناطق بطريقة واحدة. وكشف وداعة ان للراحل امنية لم تتحقق وهي ان يجلس التجمع الوطني لتقييم تجربته بالخارج والداخل، وان توقف نضاله. وقال ان التجاني ظل حتى اللحظات الاخيرة يؤكد اهمية توثيقها باعتبار ان التجربة المعارضة جزء من ارث الحركة الوطنية. وفضل وداعة ان يصف التجاني ب» صاحب الموقف القوي» بدلا عن الصفة التي تداولها البعض عن التجاني وهى حدة الطبع، وان قوة مواقفه تأتي من قدرته المهولة على تقييم المواقف السياسية ودرجة تأثيرها وفهمها بشكل افضل من المحيطين. ويؤكد القيادي البعثي ان التجان? كان واسع الصدر حلو المعشر كريم الشمائل.
وكشف وداعة ايضا عن ان التجاني الطيب ظل يقود حوارا مستمرا معهم بغرض توحيد اليسار السوداني، وقال ان الحوارات ما كانت تستهدف ان يتم ادماج تنظيمات اليسار بقدر ما شغلت بتوحيد الرؤى والمواقف حول القضايا الكثيرة المثارة، ليبدد القيادي البعثي بذلك الصورة النمطية الاخرى المتداولة للرجل باعتباره متصلبا فى الرؤى والمسار، لافتا الى ان الحوارات اثبتت ان الطرفين لما يكونا بعيدين فى مواقفهما ورؤاهما، ووعد وداعة ان يقدم اوراق الحوار للاطلاع العام خدمة للهدف الذي سعي اليه التجاني الطيب.
سجون وشجون
كتب كبلو في عيد ميلاده الثمانين تسجيلا لبعض ذكرياته مع التجاني، وان حفلت بما يعد نوعاً من التسجيل والتوثيق للتاريخ الحزبي والسياسي. يقول كبلو: التقيت المناضل التجاني الطيب أول مرة في منزل السيد علي أحمد حامد في مدينة الفاشر في عيد رمضان وكان قد أطلق سراحه من سجن «الخير خنقه» وكان سجن المديرية حينها قبل أن ينتقل سجن المديرية إلى سجن شالا. وكان ذلك إما في أواخر 1963 أو بدايات 1964 وكان في صحبته الأستاذ بدر علي الأستاذ بالفاشر الثانوية، والأستاذ صديق أحمد البشير صاحب ومؤسس مكتبة الجماهير، إحدى منارات الإستنا?ة والوعي في الفاشر في ذلك الوقت، وبصحبتهم مضيف التجاني الأستاذ حسن الخليفة عمر أحمد حامد، لاعب الكورة الموهوب والموظف بحسابات السجن حينها. ولما قدمت له سألني عن محمد عوض كبلو، شقيقي الأكبر، فقلت له أنه بسجن كوبر، ممتحن للشهادة السودانية وما كنت أعرف أن محمد سيحل محل الأستاذ التجاني بمجرد انتهائه للإمتحانات. كنت حينها في سنة أولى ثانوي وسنة أولى شيوعية. ثم كان اللقاء الثاني لي بالأستاذ التجاني في جريدة الميدان في يناير 1965، وكان حينها رئيس التحرير الفعلي بينما رئيس التحرير المسجل هو المناضل الكبير المرحوم ?سن الطاهر زروق.
آخر المختفين
ويواصل كبلو :خلال هذه الفترة كانت مقالات الأستاذ التجاني الطيب في الميدان تشد جيلنا بتحليلها السياسي العميق ولغتها السلسلة الجميلة، ولعل مما علق بذاكرتي مقال رائع يرد فيه على مولانا عبد الرحمن وكان وزيراً للإعلام في حكومة المحجوب الأولى عندما قررت الحكومة الإحتفال بذكرى كرري. وكان حسب علمي المحرر لكتاب ثورة شعب ثم كتب كتاباً بعد حل الحزب الشيوعي، تمت مصادرته، عن الإستعمار الجديد في افريقيا لو لم تخني الذاكرة. ثم سافر لبراغ لتمثيل الحزب في مجلة قضايا السلم والإشتراكية. وعاد من براغ ليصبح مسؤولاً عن مديرية ا?خرطوم ويساهم في خوض معركة الإنقسام في 1970. وأذكر أنه تم إلحاق مكتب الجامعات بالمديرية في نهاية عام 1970، وبعد إعتقال الراحل الخاتم عدلان في 30 مايو 1971 حللت مكانه في مكتب الجامعات، وأذكر إجتماعاً في يونيو من ذلك العام للمكتب في حي الصحافة حضره الأستاذ تجاني، وبعد إنتهاء الإجتماع ركبت مع الأستاذ تجاني ليوصلني معه وفي الطريق سألني «ما الذي يكتبه محمد عوض كبلو في الجرائد هذه الأيام؟» وكان محمد قد نشر مقالاً في الصحافة او الرأي العام لا أذكر عن البنيوية، فقلت للأستاذ تجاني «هذا تيار فلسفي يبدو أنه الموضة هذه?الأيام في أوربا» فقال لي «يا بختكم الآن لديكم متخصصين في الفلسفة والاقتصاد والنقد وغيره، نحن عندما بدأنا كنا نكتب في كل شيء، كنا نقرأ ونبذل مجهوداً لدراسة الواقع وبناء التنظيم وتنظيم الجماهير في نفس الوقت.» ثم لم نلتق بعدها إلا أمسية 21 يوليو 1971 حيث ذهبنا للقائه طالبين أن تتخذ سلطة 19 يوليو موقفاً واضحاً من إستقلال الجامعة وقرارلت نميري التي أعلنها في حنتوب، وبالفعل أعلن هاشم العطا في خطابه في اليوم التالي إخضاع تلك القرارات للتشاور الديمقراطي بين الطلاب والأساتذة وإدارة الجامعات. وعاد نميري للسلطة في 22?يوليو وأختفى تجاني ونقد وسليمان والجزولي ويوسف حسين وغيرهم من الكادر السري، وكان الأستاذ التجاني آخر المختفين الذين أعتقلوا في عام 1981، وكان المناضل الجزولي سعيد قد اعتقل في عام 1972 الأستاذ سليمان حامد في عام 1974 والأستاذ يوسف حسين والدكتور محمد مراد في عام 1976. وقد قضى الأستاذ التجاني فترة إعتقاله بين زنازين سطوح جهاز الأمن وقسم الشرقيات بكوبر وقدم خلال تلك الفترة للمحاكمة التي قدم فيها دفاعاً سياسياً. وقد إلتقيته في هذه الفترة مرة واحدة في عام 1982 عندما كان هو بالشرقيات وأتيت أنا من سجن بورتسودان.
ولم يتوان التجاني الطيب فى ان يقدم مرافعة شديدة الثراء والنصوع حينما قدمه جهاز الراحل نميري القمعي للمحاكمة فى العام 1982. ويبين نص الدفاع الذي قدمه امام المحكمة العسكرية، وضوح الاهداف ونصوع الرؤية لدى الرجل، فرغم ان المحكمة تلك قد قضت عليه بالحكم بالسجن عشر سنوات، فانه لم تنصرم الا بضعها لتذهب المحكمة وقضاتها ونظامها الباطش تحت اقدام الشعب فى ابريل 1985.
وكان ما خطه الرجل ادناه شهادة حياة على ايمانه بنبل القضايا التى كرس لها حياته، مثل حرية الوطن وسيادته تحت رايات الديمقراطية والاشتراكية. رافع التجاني الطيب فى تلك المحكمة ليس دفاعاً عن حياته، بل دفاعاً عن تلك القضايا فقال: وليست هذه اول مرة اواجه فيها القضاء، فانا مناضل منذ الصبا الباكر، اي قبل اكثر من اربعين عاما، و الفضل في ذلك يعود الى ابي ومعلمي الذي كان قائدا لثورة 1924 في شندي وظل وطنياً غيوراً حتى وفاته قبل شهور، كما يعود الى جيلنا العظيم جيل الشباب الذي حمل على اكتافه القوية اعباء نهوض الحركة الو?نية والديمقراطية الحديثة. وانني اعتز بانني كنت من المبادرين والمنظمين البارزين لاول مظاهرة بعد 24 وهي مظاهرة طلاب المدارس العليا في مارس 1946، واعتز بانني كطالب في مصر اديت نصيبي المتواضع في النضال المشترك مع الشعب المصري الشقيق ضد الاستعمار وحكومات السراي والباشوات ونلت معه نصيبي المتواضع من الاضطهاد باعتقالي سنة وقطع دراستي، واعتز بانني شاركت مع رفاق اعزاء في كل معارك شعبنا من اجل الحرية والتقدم الاجتماعي والديمقراطي، وقمت بدوري المتواضع في بناء الحركة العمالية وتنظيماتها ونقاباتها والحركة الطلابية واتحا?اتها، واعتز بانني في سبيل وطني وشعبي شردت واعتقلت وسجنت ولوحقت وانني لم اسع الى مغنم ولم اتملق حاكماً ولا ذا سلطة ولم اتخلف عن التزاماتي الوطنية كما اعتز بانني ما زلت مستعداً لبذل كل تضحية تتطلبها القضية النبيلة التي كرست لها حياتي، قضية حرية الوطن وسيادته تحت رايات الديمقراطية والاشتراكية. ولست اقول هذا بأية نزعة فردية فانا لا اجد تمام قيمتي وذاتي وهويتي الا في خضم النضال الذي يقوده شعبنا وقواه الثورية، الا كمناضل يعبر عن قيم وتطلعات واهداف ذلك النضال، الا عبر تاريخ شعبنا ومعاركه الشجاعة التى بذل ويبذل في?ا المال والجهد والنفس دون تردد في سبيل الحرية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي، انني جزء لا يتجزأ من هذا التاريخ المجيد وهذه القيم والتطلعات النبيلة. ان هدف السلطة من تقديمي لهذه المحاكمة ليس شخصي بالدرجة الاولى وانما مواصلة مساعيها لمحو التاريخ الذي امثله والتطلعات التى اعبر عنها .. ولكن هيهات.. وشكراً على سعة صدركم.
مع الاخرين
ولم تنته محاكمات التجاني الطيب عند ذلك؛ فقد ظل هو وحزبه يتعرضا لمئات المحاكمات جنباً الى جنب مع رصفائهم من الاحزاب السياسية السودانية التي قادت وتقود العمل المعارض، محاكمات من نوع اخر مسرحها ليس المحاكم، ففضائها المساحات التي تبقت بعد انفصال الجنوب، يقدم سجل اتهامها شعب فقد لسانه الاخر، وبعض امله في المستقبل. شعب لم يتوقف عن طرح التساؤلات عن كيف ولماذا حدث ومن هو المسؤول؟. ليس طرح الاسئلة بهين لأن امثال التجاني يملكون إجابات ولا يخلون من حلول؛ ففكر التجاني وحزبه كان أول من حاول علاج الداء قبل استفحاله، لكن? ظل مع الاخرين عاجزا عن عبور النهر واجتراح المعجزات .
ويقدم محمد وداعة مرافعة عن ما قدمه هذا الجيل من قيادات الاحزاب في السنوات الماضية ومدى تحملها مسئولية ماحدث للسودان فيقول ان مسئولية ما حدث للبلاد يقع على عاتق الانظمة المدنية والعسكرية التي حكمت لا على عاتق اليسار الذي لم يحظ بذلك. ويرى ان القيادي فى حزب البعث السوداني ان كل الخطايا التي ارتكبتها الانظمة المدنية والعسكرية من قبل، لا تساوي ما ارتكبته الانقاذ منذ اعتلائها السلطة. مشيرا ان الانقاذ افقرت الشعب وقسمت الوطن واشعلت الاطراف بنيران لن تتوقف. ونوه القيادي المعارض ان الفقر الذي يعنيه ليس ما يعيشه ال?اس الان فى البلاد من جوع وضائقة، وانما فقدانهم لمدخراتهم المتمثلة فى القطاع العام للدولة، والذي باعته الانقاذ بثمن بخس.
يعود كبلو ليقول عن اداء التجاني الطيب الحزبي: لقد أتاحت الإنتفاضة الشعبية في مارس أبريل 1985، لي لقاء الأستاذ تجاني بشكل منتظم في جبهات عمل كثيرة، فألتقيته وعملت معه وهو رئيس تحرير الميدان بصفتي المحرر الاقتصادي غير المتفرغ، وتحدثنا في ندوات مشتركة أثناء ترشيحه في دائرة أم درمان الغربية بعضها مفتوح «ميدان الربيع» وبعضها مقفول. والتقينا في الإجتماعات الموسعة للجنة المركزية التي كانت تضم إلى جانب أعضاء اللجنة المركزية أعضاء المكاتب المركزية وقيادات المناطق الحزبية. وكان الأستاذ تجاني في كل تلك اللقاءات على ا?مستوى الحزبي يمثل التجربة والفكر السياسي المتقد والحزم والصرامة الحزبية، والروح الرفاقية والصداقة التي إمتدت لعائلاتنا.
وجاء إنقلاب يونيو ليتم اعتقال التجاني ضمن قيادات العمل الوطني والديمقراطي والنقابي والطلابي والمهني، وعندما أطلق سراحه كلف بمهمة قيادة عمل الحزب بالخارج وتمثيل الحزب ضمن آخرين في عمل المعارضة، فكان أول أعماله إصداره لجريدة السودان بالقاهرة والتي قصد منها أن تكون صوتاً للمعارضة في الخارج، لكن بعض أطراف المعارضة عرقلت عملها وفضلت إصدار إصداراتها الخاصة بها. وكان الأستاذ التجاني وراء كثير من العمل التحضيري لمؤتمرات التجمع وإجتماع هيئاته وتقريب وجهات النظر بين فصائله. ورأس التجاني في مقتبل عمر التجمع المعارض ا?دى لجانه التحضيرية مقدماً لأعضاء اللجنة ولهيئة التجمع من بعد ذلك تجربةً تحتذى في كيفية إدارة العمل العام وإنتهاج الوضوح والشفافية في كافة التفاصيل الإدارية والمالية وعل تلك التجربة هي ما دفعت بالتجاني وربما بهم الى الابتعاد او الابعاد عن التصدي لمثلها رغم كثرتها.
*و نعود لنقرأ مجتزأ اخر من مقال التجاني الطيب انف الذكر، يقول الرجل : لقد لعب الحزب الشيوعي دوراً أساسياً في النهوض لانتزاع الحقوق والحريات الديمقراطية، وأنا هنا كعضو مؤسس للحزب الشيوعي، أشعر بالاعتزاز الشديد لأن الحزب الشيوعي قام بذلك دون سند أو قبيلة أو طائفة وحتى بدون أن تكون لديه شخصيات ذات نفوذ اجتماعي أو مالي. ورغم تطاول السنوات عن تلك المناسبة التي كتب فيها التجاني تلك السطور فان قرأته الخاصة لما سيحدث فى السنوات الماضية، طابقت باندلاع الربيع العربي وتضعضع عرش العسكرية الشمولية، طابقت الواقع. قال ا?تجاني :غض النظر عن اختلاف الساحات، ستشهد السنوات الماضية تحولا ديمقراطيا وسلام!.
حسناً لا شك فى ان رجل مثل «عم التجاني» عاش سعيداً لأنه عاش كما احب، وذلك على مايقال منبع السعادة ومصدرها الذي لا ينضب. عاش التجاني، لاشك، لا كما عاش كثيرون مِن مَن عرفناهم من ذلك الجيل الذي ينسحب الان من المسرح، كخيوط الضوء امام جحافل الظلام، فقد كانت لكل منهم طريقته وطريقه لكنهم شكلوا معاً قبل انسحابهم لوحة تبدو كما نحن الان!.
الصحافة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.