تظل واحدة من أمنياتي أن ازور مدينة ( كتم ) التي ترتبط عندي بالجمال والطبيعة وأكاد أتجول في شوارعها عندما يحكى عنها الأستاذ المرحوم حسن نجيلة في كتابه « ذكرياتي في البادية « وهو يعرفنا بشخوصها في ثلاثينيات القرن الماضي ... وارتبطت كتم بالمفتش الانجليزي الأشهر ( مور) والذي جعل من كتم منطقة معزولة وحارب بشدة التعليم واتسم بتصرفات شخصية تلفت الأنظار فهو يعيش مع أهل كتم كما لو كان واحدا منهم فيقيم المآدب البلدية ويقدم العصيدة بالملاح وإذا جاء شهر رمضان صامه مع الناس حتى النهاية ولا يبيح لنفسه أن يفطر يوماً واحداً ، وكان إذا جاء أوان الإفطار أعدت له مائدة مثلما يعدها المواطنون من حوله مكونة من الآبري والبلح والعصيدة وكثيراً ما يدعو الناس للإفطار معه وكما يتقبل دعواتهم للإفطار معهم في بيوتهم ، وهو بالطبع لا يفعل هذا عن عقيدة دينية وإنما إمعاناً منه في الاندماج في البيئة التي يعيش فيها ولتسهل عليه معرفة الناس ودراستهم عن كثب ، ولكن ورغم هذا التفاني فإن ( مور ) جعل ( كتم ) سجناً كبيراً لا يسمح بالخروج منه أو الدخول إليه إلا لمن يشاء ممن يطمئن إليهم فقد كان عدواً للتعليم والمدنية وكل جديد وكان يريد أن يعيش الناس في ( كتم ) كما هم بغير تطور وهنا نذكر حادثة المساعد الطبي الذي نقل من أم درمان إلى كتم فشاهده ( مور ) وهو بلباس افرنجي وكان يمنع أهل كتم من لبس البنطلون والقميص فاعتبر ذلك خروجاً عن قوانينه الخاصة فما كان منه إلا أن ابعد المساعد الطبي في اليوم التالي .. كان ( مور ) يستمتع بان يكون أهل كتم في أمية وجهل وسلط إتقانه للغة العربية وحفظ بعض سور القرآن الكريم ومعرفته للتقاليد والأعراف المحلية ... سلطتها في إذلال مواطني كتم وعزلهم عن مظاهر التطور في تلكم الحقبة التاريخية .. جالت بخاطري هذه الصورة للطاغية ( مور ) وان الشاهد برنامج ( كاميرا الشروق) في قناة الشروق الفضائية الذي يعتبر بمثابة النافذة لكل ولايات السودان وأخذتني الشاشة في جولة داخل شوارع ( كتم ) وأدخلتني إلى منزل أسرة (سحنون) الفنية واستمتعت كما استمتع غيري بالفواصل الغنائية والموسيقية التي أداها في تناغم وانسجام الآباء في من هذه الأسرة مع الأبناء والأحفاد.. فيا ترى ماذا سيفعل مور لو جاء الآن ؟ هل سيطرب مع أسرة (سحنون) على أنغام هذا الجيل الجديد ؟ هل سيصدق أن المدارس انتشرت في ( كتم ) .وان الناس هنالك يلبسون الزي الافرنجي جنباً بجنب مع الزى القومي ؟!! إنّ قصة ( مور) مع الوطنيين من أهل السودان تصلح لان تكون نموذجاً لدور الصحافة في محاربة الطغاة والمتجبرين فعندما تواترت أنباء تصرفات( مور ) في الخرطوم قرر الصحفي الكبير احمد يوسف هاشم زيارة المدينة فما كان من ( مور ) الا رفض هذه الزيارة ، فأخذ احمد يوسف يشهر قلمه القوي الجرئ ليتحدث عن ( مور ) والسد الذي أقامه حول الناس في ( كتم ) والأسلوب العتيق الذي يسير به في الحكم وصب جام غضبه في عدة مقالات نارية هي التي سمى فيها حكومة الانجليز بحكومة المفتشين ، ونفس أبو الصحف بهذه المقالات التي نشرت في جريدة ( النيل) عن نفوس كثيرة معذبة ، ووجدت المقالات استقبالاً حافلا من القراء وأيضا من كبار المسئولين في الحكومة الانجليزيةے وكانت ذات اثر مباشر في أن يتم إبعاد ( مور ) من ( كتم ) بل من كل السودانيين وإعادته إلى بريطانيا . لقد كان للصحافة وللصحافيين الوطنيين الدور الكبير لسقوط مور فلم يشفع له اندماجه في البيئة المحلية ومعرفته بالمجتمع المحلي بدرجة لم ينافسه فيها أي بريطاني آخر ، والغريب أن ( مور ) طيلة عمله بالسودان عمل فقط بمدينة كتم في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي لمدة ستة عشر عاماً كانت سنين مظلمة وسط مسيرة كتم البيضاء . لمور ولكل العالم نهدي هذه الصورة المشرقة التي نقلتها ( كاميرا) شروق لكل العالم. د. هشام محمد عباس