النجم السينمائي الأمريكي "جورج كلوني"، يملك من الشهرة والمكانة ما تجعله يجلس وهو يخلف رجلاً على رجل مع الرئيس الأمريكي "أوباما"، وكل ساعة يمضيها بعيداً عن عمله في التمثيل تعني فقدانه لمئات الآلاف من الدولارات، ولم يُعرف للرجل نشاط سياسي يُذكر داخل أمريكا أو خارجها، كما ليست له علاقة رحم أو نسب بقبيلة النوبة في جنوب كردفان، وحين سمع بما يجري للأطفال والنساء من قتل وتشريد وجوع بمنطقة جبال النوبة، حضر بنفسه لزيارة أهالي المنطقة في قراهم، فتحدث إليهم وسمع منهم حقيقة ما يعانوه، وعندما عاد لوطنه دفعه هول ما رآه للقيام بتنظيم مظاهرة أمام مقر السفارة السودانية بالعاصمة الأمريكية، بهدف توجيه أنظارالعالم لتلك المأساة الإنسانية، وما تقوم به الطائرات من قصف للأهالي، وما يعانونه من نقص في الغذاء نتيجة عدم سماح الحكومة بوصول المساعدات الدولية، وقد دفع "كلوني" ثمن تنظيمه لتلك المظاهرة بتعرضه للإعتقال بواسطة الشرطة بحسب ما هو معلوم. لا تستطيع الإنقاذ أن تنكر حقيقة المأساة التي يعيشها أهلنا في جنوب كردفان، فقد عرضت كثير من القنوات التلفزيونية الأجنبية ومواقع الإنترنت مشاهد مصورة توضح كيف يعيش الأطفال والنساء والشيوخ داخل كهوف الجبال لإتقاء القذائف التي تطلقها الطائرات، فقذائف الإنقاذ لا تفرق بين الأهالي الأبرياء وأهدافها العسكرية، ويرجع ذلك الى أن الجيش السوداني ليست لديه الطائرات المتطورة التي تستطيع إصابة الهدف بالدقة المطلوبة، فالطائرات الحربية الحديثة مجهزة بتقنيات تستطيع معها إصابة الشخص المقصود وهو يجلس في سيارة دون أن تؤذي الشخص الذي يجلس الى جواره في المقعد، أما طائرات الأنتينوف التي يستخدمها الجيش السوداني، فهي تلقي بالقنابل بإسقاطها يدوياً بواسطة الجنود من خلال فتحات بأسفل جسم الطائرة، فتقع القذيفة أينما تقع، تماماً مثلما يلقي من تأخذه النشوة ب "النقطة" على جسد المطربة دون أن يدرك أين تهبط، فإذا إستهدفت طائرة ما قصف مبنى للقيادة العسكرية في مدينة "كاودا" مثلاً، فإنها قد تُصيب مدرسة في "الدلنج" أو ملعب للكرة في "أبوجبيهة"، بحسب سرعة الطائرة وإتجاه وشدة الريح وبراعة الجنود الذين يطلقون القذائف من مؤخرتها. لقد كشف الخواجة "كلوني" عن العار الذي يتلبسنا نتيجة صمتنا وتخاذل موقفنا حيال ما يحدث من جرائم في حق أهلنا في جبال النوبة، فقد حملت النخوة "كلوني" لإتخاذ هذا الموقف وهو يعيش على بعد (12) ألف كيلومتر من جبال النوبة التي قد يكون قد سمع بها لأول مرة بسبب ما يجري بارضها من مأساة، ثم جلسنا نحن نصفق له من منازلنا ونهتف لبسالته من أمام أجهزة الكمبيوتر والتلفزيون، دون أن ننطق بكلمة رغم أن ضحاياها أهلنا وإخوتنا في الوطن. و من المفارقة، أن أمريكا التي أنجبت "كلوني"، حضر منها هذه الأيام وفد من أبناء النوبة الأمريكان، وقد جاءوا للخرطوم بترتيب وتدبير من حكومة الإنقاذ، ويتشكل الوفد من ثلاثة من أبناء النوبة القياديين في العمل المعارض (حزب الأمة القومي)، الذين كانوا قد لجأوا الى أمريكا هرباً من الإنقاذ بعد إستلامها الحكم، وعند وصولهم الخرطوم، أحسنت الإنقاذ إستقبالهم، وهيأت لهم مقابلة مسئوليها الكبار ونظمت لهم لقاءات مع تنظيمات المؤتمر الوطني على مختلف المستويات، فبادل الوفد الحكومة إحسانهاً بإحسان، فصمتوا عن قول أي كلمة تدين الإعتداءات التي يتعرض لها أهلهم، فقد إستمعت الى رئيس الوفد السيد/ أمين بشير فلين (عمل وزيراً للسياحة في الحكومة الديمقراطية) بإحدى القنوات السودانية وهو يقول: " عند وصولنا للخرطوم وجدنا عدد كبير من أبناء النوبة يعملون كوزراء ومعتمدين وأعضاء بالبرلمان وبالمؤتمر الوطني مما يؤكد أنه لا توجد أي مشكلة للنوبة مع الحكومة"، كما قرأت بصحيفة "الرأي العام" تصريحاً أدلى به عضو الوفد الأستاذ/ أزرق زكريا قال فيه: " أن قيادة الحركة الشعبية هي التي تقصد إبادة أبناء جبال النوبة بهذه الحرب ". أطلق وفد النوبة الأمريكان هذه الأحكام وهو بالخرطوم قبل أن يقف على حقيقة ما يجري في أرض الواقع في جبال النوبة، ومثل هذه الأحكام لا تحتاج لمن يعبر لها الأطلنطي، فبمثلها تصدح أفواه الإنقاذ كل صباح، وهي لا تغير ما يجري في أرض الواقع، ولن نكلف نفسنا عناء التعقيب عليها، بيد أن الذي دفعنا لكتابة هذه السطور هو محاولة الوقوف على السر الذي يقف وراء نجاح الأنقاذ في تمكنها - كل هذه السنوات - من إستلاب عقول معارضيها بمثل هذه البساطة، بل وإستلاب عقول كثير من أبناء شعبنا المقهور بالقدر الذي تجعله يهتف لها وهي تذبح فيه بسكين ميتة. في تقديري أن السر يكمن في أن الإنقاذ دائماً ما تضربنا بالقطاعي وعلى دفعات، فهي تستفرد بكل فئة من الشعب فتضربها على إنفراد بينما يقف بقية الشعب يتفرج دون أن تتحرك فيه شعرة ما دام الظلم يقع بعيداً عنه، وهكذا، فقد وقفنا نتفرج على ما يجري في دارفور لكل هذه السنوات دون أن تخرج مظاهرة واحدة في الخرطوم أو أي مدينة أخرى لتعبر عن موقفها عمٌا أرتكب فيها من فظائع، وبالمثل، حينما وقع الظلم على أهل كجبار تركناهم يصارعون النظام وحدهم ووقفنا نتفرج على مأساتهم المعلومة حتى إنتهت محنتهم لما إنتهت اليه، ومن قبلهم تفرجنا على أهالي مدينة بورتسودان التي قدمت شهداء في إنتفاضة شعبية عارمة ضد النظام، ولم نتحرك لمناصرتهم حتى تمكنت الحكومة من القضاء عليهم، وهكذا، في كل مرة تمد باقي أقاليم السودان لسانها للمنطقة التي تجابه النظام، بل وتخرج لإستقبال رموز النظام ويشاركونهم الرقص والهتاف والزعيق، حتى يأتي عليهم الدور، وينطبق ذلك حتى على صعيد الأفراد، فالزملاء في المهنة الواحدة (الجيش والشرطة والقضاء ..الخ) كانوا يهللون كلما قامت الإنقاذ بإحالة عدد من زملائهم للصالح العام، لما يتيح لهم ذلك من فرص في الترقي والصعود للدرجات الأعلى، ثم لا تلبث الإنقاذ أن تجرٌعهم من نفس الكأس بعد فترة من الزمن، فيهلل لذلك من لم تشملهم القائمة، وحتى اليوم هناك من يهللون لفصل زملائهم بذات الغفلة وقصر النظر، حتى تدور عليهم الدوائر. لقد سلمنا رقابنا كل هذه السنوات لتنظيم يتألف من بضع مئات من الأشخاص، إستطاعوا أن يتحكموا في مصيرنا وأقدارنا ونحن بهذا القدر من الإستسلام والخنوع وننظر إليهم في بلاهة بلا حراك، وما كان ليحدث ذلك لو أننا كنا شعب يستشعر الظلم الذي يقع على أي جزء منه كما ينبغي للشعوب الواحدة أن تفعل، ولكننا سمحنا للإنقاذ بأن تخلق من بيننا شعباً في كل إقليم، بل في كل محلية، فنحن لم نعد شعب واحد نتشارك الأمل والألم مثلما كنا في الماضي، أو بمثلما تفعل شعوب الأرض الأخرى. وبالعودة لما يجري في جبال النوبة، فرغم كل الظلم والفظائع التي تقع على أهلنا هناك، الاٌ أننا لم نتحرك لمناصرتهم ولو بمظاهرة نسائية، فالحياة تسير على طبيعتها في الخرطوم ومدن السودان الأخرى على أفضل ما يكون، مهرجانات للطرب وغناء في كل مسرح، وتنشغل أوساط أدباءنا ومثقفينا في الندوات بالجدل حول مشروع الممثل الجحوي علي مهدي الذي ينوي به تنظيم المهن الموسيقية والمسرحية، وينشغل العوام بنجاح حفلات المطربة حرم النور بالعاصمة أسمرا. إنه من سوء التقدير والظن معاً أن نعتقد بأن شعب جبال النوبة سوف ينسى لنا عار صمتنا على ما يحيق بهم من ظلم ومأساة، وليس عند هذه النقطة تتوقف المشكلة، فسوف يدفع الشعب والوطن الثمن غالياً لتخلينا عنهم وتركهم لمواجهة مصيرهم لوحدهم، فيكذب من يقول أن أبناء النوبة سوف يقبلون بالعيش معنا في وطن واحد، ما لم نقم بتدارك خطئنا وتصحيحه بمؤازرتهم والدفاع عنهم، فما يحدث في جبال النوبة اليوم سوف يخلف وراءه مرارة في النفوس وغصٌة في الحلوق، وهي آثار لن يمحوها الزمن بسهولة، ونخشى أن يكون الوقت قد فات على العمل لعلاج ذلك، فقد بدأت بالفعل ظهور الأصوات ألتي تنادي بالإنفصال من دولة الظلم والمطالبة بحق تقرير المصير، وسوف يحدث ذلك إن قصُر الزمن أو طال مادمنا ندير لأهلنا هناك ظهورنا، ونصمت على ما تفعله بهم وبنا الإنقاذ، ولو أننا بقينا على مثل هذا الحال، لن يبقى في الوطن ما يتم الإنفصال عنه، فشكراً للمستر "كلوني" الذي كشف لنا عن حقيقة بؤسنا والعار الذي حاق بنا، عسى أن يكون في ذلك بداية لعمل جدي يدفعنا لنقوم بواجبنا نحو أهلنا في جبال النوبة قبل فوات الأوان، ولن يتحقق ذلك الا بوقوف جميع فصائل المعارضة في صف واحد سياسياً وعسكرياً مع تنظيم الجبهة الثورية بهدف إسقاط النظام. سيف الدولة حمدناالله [email protected]