لا تزال رهانات إسقاط النظام في السودان – حتى الآن – معقدة ومعلقة على أغصان أشجار الصبار البائسات.. بلا ثمار ولا رحيق ولا عبق فواح. فالاحتجاجات الشبابية التي توهجت بعد تطبيق الإجراءات التقشفية لا يتوقع لها أن تتراجع القهقرى ويتلاشى وميضها وألقها الآخذ في الانتشار والاتساع.. كما لا يمكن التنبؤ بمآلاتها وصيروراتها بأنها سوف تؤدي إلى انهيار سريع للنظام، مثلما حدث في تونس ومصر وحتى في اليمن.. وذلك نسبة لحالات التعقيد التي تكتنف الحالة السودانية.. لقد شكل انطلاق الهبة الشبابية في السابع عشر من يونيو الماضي بعداً جديداً في منازلة حكومة الإنقاذ منذ اعتلائها خشبة المسرح السياسي في الثلاثين من يونيو عام 1989. كما مثلت الهبة الشبابية التي اجتاحت العاصمة المثلثة: الخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري، ومعظم عواصمالولايات صرخة مدوية لم يعترف بحجمها وعنفوانها بل على العكس من ذلك بادر الناطقون الرسميون باسم النظام – وما أكثرهم – للتقليل من حجمها ورددوها على الدوام ونعتها ونعت من قاموا بها بأنهم : - قلة، وجماعات محدودة. - شذاذ آفاق. - عملاء لجهات أجنبية. - عمليات مستحيلة أشبه بلحس الكوع. - شماشة. - معدل دخل الفرد السوداني (1800 دولارا). لقد تفهم الشعب السوداني وأدرك أن الإجراءات والسياسات التقشفية التي أقدمت عليها الحكومة السودانية كانت السبب الرئيسي وراء غلاء الأسعار، مما جعل المواطن يعاني الأمرين من شظف العيش، وانعدام الضروريات التي يحتاجها في حياته اليومية.. غير أنه – أي الشعب السوداني – لا يفهم ولا يدرك، ولا يستمرئ حالات الفساد والإفساد التي انتظمت كل دواوين الدولة: - الاعتداء على المال العام وحالات الاختلاس غير المسبوقة التي كانت إحدى الشرارات المحرقة التي أشعلت فتيل الأزمة. - من الجائز بل من الممكن أن يتفهم الشعب السوداني انتشار بؤر الفساد، إذا كانت الدولة مدنية، علمانية، لكنه لا يطيق أن تتم استمالته بالقوة للفهم بأن يتم ذلك في دولة ترتدي عباءة الإسلام وتتوشح بدثار الإسلام النقي والسمح والعادل. حقاً ما يجري في الساحة السودانية الآن معقد للغاية ويزيده تعقيداً إصرار الجهات الأمنية على قمع المظاهرات بالضرب والتعذيب وإطلاق الغاز المسيل للدموع والمفضي إلى الإغماء إضافة إلى الاعتقال والحبس وانتهاك كرامة الإنسان الذي كرمه الله تعالت عظمته وثناؤه. ويفاقم تعقيد الحالة السودانية مظاهر التشظي والخلاف والاختلاف التي تكتنف قطاعات المعارضة.. التي لا تمتلك – حتى الآن – رؤية موحدة يتم الاتفاق عليها من كل الأقطاب. كما أن وثيقة "البديل" هي الأخرى لا تزال محل جدل وحجاج! لا يمكن في ظل هذا الانعطاف الخطير الذي يتدحرج إليه السودان – أن يتم احتواء الأزمة، أو إخماد الثورة بالشتائم والسباب بالألقاب مثل – عُملاء، شُذاذ آفاق، ويتم شواؤهم.. لأنه لا يمكن في ظل هذه الظروف تسكين الروع بالصراخ والملاسنات. رضينا أم أبينا.. اتفقنا أم لم نتفق.. لقد أضحى للأنظمة الديكتاتورية متحف خاص. قريباً وقريباً جداً ستجد تلك الأنظمة مكانها ضمن المتحف ويا له من متحف. الشرق