عند تناول هذا الإتفاق المهم لابد من التجرد من المسائل العاطفية والنظر اليه بعين موضوعية. هنالك سؤال يخطر على البال فما هو البديل في حالة عدم التمكن في الوصول لإتفاق حتى ولو شابته بعض النواقص؟ البديل في نظر كل المحللين هو الاحتراب والذي عانى منه شعبا الدولتين لفتره لا تقل عن خمسين عاما. لربما تكون هناك نقاط ضعف او قضايا لم يتصدَّ لها الاتفاق بصورة دقيقة ومفصلة ولكن من المهم ان نعي شيئين: اولا يجب النظر للإتفاق بإعتباره ليس كنقطة نهاية "An end by itself"ولكن كعملية ديناميكية "Dynamic process"تفتح الشباك او تمثل نقطة انطلاق لتحقيق انجازات اخرى تكمل بعضها البعض. والثاني وكما يقول الدبلوماسي السويدي أقلاند المساعد السابق للأمين العام للأمم المتحده للشؤون الإنسانية: "سلام غير مكتمل افضل من حرب مكتملة"Imperfect peace is better than a perfect war" ونجد نفسنا في اتفاق معه. لا يفوت على احد عملية القرب الجغرافي "Geographical proximity" بين جمهورية السودان ودولة جنوب السودان. فالجنوب لا يقع مثلا في شرق آسيا بينما السودان في اميركا اللاتينية. فهما دولتان متلاصقتان وبينهما حدود دولية طويلة مما يتطلب التقيد بإحترام مبدأ المصالح الجماعية للدول "Collective States Interests" بصورة عامة والتي كانت متحاربة بوجه الخصوص. ان احترام هذا المبدأ يعني ضرورة تبني توازن المصالح كشرط لتحقيق السلام بين الأطراف المتجاورة بمفهومي الفناء الجغرافي والاقتصادي، حيث ان العلاقة ليست كما يقول بعض المفكرين علاقة بين الأشياء انما هي علاقة بين البشر. كما انه لابد من الإشارة الى ان المدرسة الليبرالية في العلاقات الدولية ذات المضمون الاخلاقي عفى عليها الزمن. والمدرسة القائمة حاليا هي المدرسة الواقعية "Realistic School" والتي تعنى في الاساس بالفائدة التي يجنيها كل طرف من الأطراف. وأفضلها يكون عند تساوي المكاسب "Win Win Situation". نجد ايضا ان نجاح التفاوض للوصول لهذا الإتفاق تحكمت فيه أربعة إعتبارات: أ- حاجة البلدين للعيش في سلام بإعتبار التناقضات المتعددة بينهما. ب- الضرورات الإقتصادية، او بمعنى آخر احترام القوانين الموضوعية للإقتصاد "Objective Laws of Economics" كما يقول البروفيسور البولندي أوسكار لانقا. فلابد من التعامل مع هذه القوانين بإلتزام تام حيث لا تنفع الاجراءات والمراسيم الإدارية "Administrative Decrees" وليدة اللحظة بعد مراحل الشرعية الثورية. مما يعني ضرورة توظيف الموارد توظيفا سليما لتحقيق هدفي الفاعلية والكفاءة في إدارة الدولة بصورة شاملة "Holistic". الفاعلية هي القدرة على تحقيق الهدف السياسي والكفاءة هي التكلفة الاقتصادية والإجتماعية لتحقيق نفس الهدف. يتضح لنا ان المفاوضين من الطرفين يعوا هذه المسألة جيدا فيما يتعلق بضعف الكفاءة في الأداء وتفشي الفساد الذي يضعف الفاعلية مهما توفر لها من قبضة أمنية. ت- احترام مبدأ توازن المصالح المشتركه للمنتفعين بالبلدين "Stake Holders Interests" شاملا اهلنا الرحل في مناطق التماس وتحسين الاوضاع الاقتصادية عموما والناتجة من إعادة ضخ البترول وتوفير السلع الاستهلاكية والإستفادة من الحريات الاربع. ث- القدرات الذهنية للمفاوضين وكفاءتهم المهنية والفنية ودرجة الإلتزام والعزيمة السياسية، الشيء الذي يجب تطبيقه كمعيار على كل شاغلي المناصب الدستورية. الإنجازات اذا تجاوزنا ما جاء ذكره اعلاه والانجازات المفهومة والمتمثلة في المكاسب الإقتصادية وإمكانات التكامل الإقتصادي بين البلدين مستقبلا، نجد للاتفاقية انجازات اخرى ذات أبعاد سياسية وإجتماعية هامة. أولا: الجنوب يعتبر جسرا هاما للعلاقات السودانية الأفريقية، فالعلاقة الجيدة مع الجنوب تساعد في تحسين العلاقات مع بقية الإخوة الأفارقة وتدحض ما يقال عن وجود عدائيات عرب-إسلامية مع الزنجية المسيحية. ثانيا: الأصدقاء الموضوعيين "Objective Friends" للسودان كروسيا والصين سيكونان في حرج في حالة توتر علاقة السودان مع أفريقيا لسوء العلاقة مع الجنوب مما يؤثر سلبا على مصالحهم الاقتصاية مع دول القارة. ثالثا: امكانية تمدد القبائل السودانية في مناطق التماس تمددا رأسيا "Vertical" لجنوب بحر العرب نتيجة للحدود المرنة المرتبطة بالحريات الأربع بدلا من تمددها افقيا "Horizontal" شمال بحر العرب في مناطق رعوية ضيقة وهامشية. مما يمثل ارضية مواتية للنزاع بين القبائل السودانية شمال بحر العرب في حالة عدم مرونة الحدود. لذلك نعتبر بند الحدود المرنة مكسبا لأهلنا الرحل باعتبارها تمثل قاعدة اساسية للسلم الاجتماعي بين قبائل التماس الرعوية. رابعا: ما لمسناه من بناء للثقة بين القيادات السياسية للدولتين والجدية في تنفيذ ما اتفق حوله يخلق الأرضية المناسبة لحل نزاعات أخرى بالسودان ذات طابع سياسي وإثني وثقافي مما يحسن وجه السودان دوليا ويساعد على رفع الحصار واستقطاب الدعم الدولي. خامسا: الدور الافريقي يؤكد ان افريقيا قد نجحت في احدى الاختبارات الهامة لتحقيق السلام بين دولتين افريقيتين الشيء الذي يبعد شبح التدخل الدولي الذي عادة ما ترافقه الكثير من السلبيات. سادسا: ان هذا الاتفاق من اسمه "اتفاق تعاون" به دلالة عظيمة لنظرة استراتيجية بعيدة المدى تتمثل في تطويره لدرجة اعلى من التكامل الإقتصادي والسياسي والذي ربما يكون نقطة انطلاق لروابط اوسع مع الدول الصديقة والشقيقة. هذه النظرة المتفائلة تستمد فحواها من المثل الانجليزي الذي يقول "الرحمة تبدأ من البيت" وحتى لا ينطبق علينا المثل السوداني "ضل الدليب البيجدع بعيد". من هذا المفهوم واذا اردنا ان نتكامل اقتصاديا مع العالم الخارجي في هذا الزمن الذي رأى تكاملات عدة فمن باب أولى ان نبدأ بأقرب الناس لنا كدولة الجنوب حيث كنا شعبا واحدا حتى 9/7/2011. سابعا: نرجو ان يتطور هذا الفهم لفهم اوسع لتحقيق الوفاق الوطني الشامل في كلتا الدولتين والمتمثل في الوفاق الداخلي "Intra" بمعنى وفاق جنوبي-جنوبي والاقليمي "Inter" بمعنى وفاق جنوبي-شمالي وبنفس المفهوم شمالي-شمالي وشمالي-جنوبي. ثامنا: ان الترحيب الذي قوبلت به الاتفاقية في الساحة الافريقية والعربية والدولية لابد ان تكون له مكاسب اقتصادية وسياسية مصاحبة او ما يسمى ب "Peace dividend". تاسعا: للدول العربية الشقيقة دور لا يقل اهمية من الدور الافريقي في تأمين هذا الاتفاق بتقديم الدعم الفاعل للدولتين خاصة للدولة الوليدة اي دولة جنوب السودان. الضمانات لنجاح الاتفاق الضمانة الاساسية لنجاح هذا الاتفاق تتمثل في الآتي: أ- نشر مضمون الاتفاق وسط الجماهير للدولتين للالتفاف حوله. ب- توسيع قاعدة الديموقراطية التعددية السياسية والاقتصادية. ت- التوسع في احترام الحقوق السياسية والمدنية لمواطني البلدين. ث- عدالة التوزيع والوصول للموارد في البلدين. ج- اصلاح الهياكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المشوهة بالبلدين وذلك للتمكن من تعبئة الفائضين الاقتصاديين الحقيقي والكامن وتوجيههما للقطاعات الانتاجية كالزراعة والصناعة. وذلك حتى نتجنب الوقوع في المرض الهولندي والنيجيري والذي وقعنا فيه من قبل بعدم الاستفادة الحقيقية من واردات البترول التي كانت رحمة من السماء "Windfall". ح- تماشيا مع الاصلاحات الهيكلية لابد من دور رقابي للدولة "Regulation" على اقتصاد السوق الحر والذي له العديد من السلبيات كما أكدت التجارب الماثلة امامنا في العالم. لا نعني بذلك الرجوع للاقتصاد الموجه "Command Economy" ولكن على الدولة ان يكون بها قدر عالي من الشفافية والمحاسبة الذاتية وان تنظم الرقابة على الدولة من خلال المشاركة العريضة وان تتكامل مع القطاع الخاص وان توفر الخدمات الأساسية. خ- من المهم ايضا في اطار الاصلاح الهيكلي التمييز بين مفاهيم الاداره. فالادارة ك"Administration" تهتم بالتعامل مع الأشياء كما هي "Status Quo". انا الادارة بمفهوم ال "Management" فهي تعنى بتطوير القدرات والابداع وتصحيح التشوهات في الهياكل المعمول بها. ختاما نشكر كل الذين قاموا بالوصول لهذا الاتفاق ونريد ان نؤكد بان النظره السليمة هي ان يعتبر كعملية تقود لانفراج اوسع اذا تم تنفيذه على أسس سليمة. * أوكسفورد الصحافة