نحو منتصف شهر يناير الجاري، كانت بلدة كونا الاستراتيجية في وسط مالي تقع على خطوط التماس في الصراع الدائر في مالي. فقد احتلها أولاً المتمردون الإسلاميون في تقدمهم نحو العاصمة، ثم تعرّضت للقصف خلال الغارات الجوية الفرنسية. نتيجة لذلك، وجد السكان المحليون أنفسهم عالقين وسط طرفَي القتال. يصف ماتياس جيبوار من كونا في مالي معاناة هذه المنطقة لصحيفة «شبيغل». رغم الفوضى التي اجتاحت بلدة كونا خلال الأسابيع الأخيرة، لم يفقد محمد تراور حسه الفكاهي. كان في بعد ظهر ذلك الأحد مستلقيًّا على كرسي بلاستيكي قديم خارج متجره الصغير وسط كونا في قلب مالي، وقد هدَّه التعب. على بعد بضعة أمتار، وقفت شاحنة صغيرة محترقة كانت ملكًا للمقاتلين الإسلاميين القادمين من شمال مالي. تشكّل هذه الشاحنة شاهدًا على الصراعات العنيفة التي دارت في البلدة في مطلع الشهر الحالي. لكن تراور يبتسم حين يقول إن أعماله ازدهرت بسبب القتال. يوضح: «صباح يوم الخميس، ابتاع الإسلاميون ستة كيلوغرامات من البلح من متجري، ثم أتى الجنود الفرنسيون مساء ودفعوا لي 20 يورو مقابل آخر علبة ماء كنت أحتفظ بها في البراد». في يوم الخميس ذاك، علقت كونا على خط التماس خلال تصدي الفرنسيين للإسلاميين في مالي. طوال أشهر، احتل ثوار إسلاميون أصوليون شمال البلاد، وعقدوا تحالفًا غير متين مع ثلاث مجموعات جهادية. ونحو منتصف شهر يناير، شنّ 300 مقاتل من الثوار في موكب يضم نحو 100 شاحنة صغيرة هجومًا مفاجئاً ضد الجنوب. فسيطروا على هذه البلدة الصغيرة، ونصبوا الكمائن للجنود الماليين. ولكن ما هي إلا ساعات حتى اتخذ الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند قرارًا أحادي الطرف في باريس: التصدي للمقاتلين الثوار الذين يتقدمون نحو الجنوب. فأمر في الحال بنشر الطائرات الحربية والقوات الجوية الخاصة الفرنسية. تعطينا الرحلة إلى كونا لمحة عن ضراوة الصراع الدائر، فتغطي جوانب الطرقات بقايا سيارات جيب متفحمة، كان الكثير منها قد زوّد ببنادق رشاشة. ترى قطعها ممزقة ومبعثرة في الأجمات المليئة بالأشواك في صحراء مالي، كما لو أنها هياكل عظمية لحيوانات مفترسة. قرر الجنود الماليون، الذين رافقوا مجموعة من المراسلين إلى كونا يوم الأحد، التوقف والاسترخاء في الظل قرب تلك الآليات المحترقة، متناسين مدى ضعفهم أمام الإسلاميين. فلولا التدخل الفرنسي لما عاد الثوار أدراجهم. ظننت أن الحرب انتهت لا يثق أحمدو غورد بالجيش المالي. كان مدرس اللغة العربية هذا (35 سنة) واقفًا خارج منزله المتواضع. وقد بدا نحيلاً، فيما راح يراقب أولاده وهم يلعبون في برك من الوحل، في حين انكبت زوجته على تحضير القليل من الدخن (البشنة). يقول غورد: «عندما وصل الإسلاميون إلى كونا، هرب خمسة من جنود الحكومة إلى مزرعتي». كان الذعر قد تملكهم، فأخبروه أن ذخيرتهم قد نفدت وأنهم بحاجة إلى العون. فأرشدهم غورد إلى درب ترابي صغير يعبر الأدغال ويقودهم بعيدًا عن كونا. بعيد رحيل الجنود، وقف أربعة رجال أمام بابه، كانوا ملتحين ومدججين بالسلاح، وراحوا يقرعونه بقوة. يتذكر غورد: «من حسني حظي أنني تمكنت من التخلص منهم بمخاطبتهم باللغة العربية، فلو عثروا على الجنود لأردوني قتيلا». غورد واحد من سكان قليلين لم يغادروا هذه المنطقة. تبدو كونا أشبه بمدينة أشباح بطرقاتها الفارغة إلا من الغبار وأكواخها الطينية المتشققة المصطفة على الجانبين. بين الفينة والفينة، ترى سيارة تمر مسرعة وهي محملة بالركاب العائدين إلى منازلهم. يوضح غورد: «هرب معظم جيراني ما إن سمعوا بتقدم الإسلاميين». لكنه قرر عدم ترك منزله، ويعتقد أن الثوار أعفوا عنه لأنه يجيد العربية. ويضيف: «أكدت لهم أيضًا أنني مسلم ملتزم. وأظن أن ذلك هدأهم». بعيد ذلك، سمع غورد أصوات أولى القنابل التي بدأت تسقط على البلدة. يتذكر: «ظننت أن الحرب قد انتهت. لم أدرك أن دور الفرنسيين قد حان». أولاً، اجتاح الإسلاميون مناطق شاسعة من البلد بشاحناتهم الصغيرة، ثم بدأ الهجوم الجوي (تفوق عسكري لم يستطع السكان المحليون رؤيته)، فأخذت القنابل تتساقط على البلدة. ولعل تلك الساعات التي أمضاها سكان كونا وسط تبادل النيران كانت الأقسى والأصعب. تخبر داني ديانا، أم لثلاثة أولاد: «ما زلت أعجز عن النوم. أنهض من فراشي بسرعة كلما سمعت صوتًا». عانت ديانا التجربة ذاتها كما جارها غورد. قرع الثوار الإسلاميون بابها، وهم يحملون بنادقهم على أكتافهم، فطلبوا منها أن تقدم لهم ما تملكه من طعام. عقب ذلك، بدأت الطائرات الحربية الفرنسية بدكّ البلدة. وبعد يوم، أخذت القوات الخاصة الفرنسية تمشط البلدة، بحثًا عن أي إسلاميين قد يكونون مختبئين. رائحة لحم فاسد لم يدرك أحمدو غورد مدى عنف القصف إلا خلال تجواله أخيرًا في كونا. كانت حفر بعمق ثلاثة أمتار تنتشر في المنطقة المحيطة بمرفأ البلدة الصغير ومصنع السمك. ففي هذا الموقع عسكر الإسلاميون، مستخدمين عددًا من الدبابات التي تسير على دواليب كحاجز حماية، بعد أن صادروها من الجيش المالي. ما إن اجتاز غورد والمراسلون بسرعة بوابة المنشأة بسيارتهم الجيب حتى استفاق الجنود الماليون النائمون في الظل وقطعوا طريقهم. أصروا على أن المنطقة لا تزال غير آمنة، مشددين على احتمال وجود قنابل غير منفجرة تحت الركام. إلا أن رائحة اللحم الفاسد تُظهر أن همّ الجنود الأول كان حمايتنا من مناظر الجثث. يتقبّل غورد حتمية خسارة الأرواح. وعلى غرار معظم أهل كونا، سمع عبر الراديو أن الفرنسيين وصلوا إلى تمبكتو في شمال البلاد وأن الإسلاميين يفرون. بحلول صباح يوم الاثنين الماضي، كان المسؤولون العسكريون الفرنسيون يؤكدون أن قوات برية تمكنت، بمساندة قوات شبه عسكرية ومروحيات فرنسية، من السيطرة على المطار والطرقات المؤدية إلى تلك البلدة الصحراوية خلال غارة ليلية. يذكر غورد: «بعد تدخل الفرنسيين، يبدو أن أمل مالي قد تجدد». في المقابل، تعهدت ألمانيا بدعم الجنود الأفريقيين، الذين يحاربون المتمردين، بمدهم بمعدات، مثل الشاحنات والملابس والأحذية. لكن برلين رفضت حتى اليوم منحهم السلاح، مع أنها قدّمت طائرتَي نقل من نوع Transall. عبرت سيارة الجيب قرب المبنى حيث يعمل عمدة كونا. أعيد رفع العلم المالي هنا قبل بضعة أيام، وبدت ألوانه مشرقة. فبعد أن هرب العمدة من وجه الثوار، اشترى العلم من أقرب بلدة كبرى وحمله معه إلى كونا عندما عاد.