لعله في حكم الإفتراض أن تتقاطع مهنة المحاماة والقضاء مع الإبداع والتذوق للأدب بشتى ضروبه من شعر ونثر، فبهاء الكلمة ونصاعة البيان هي المعين الوحيد للمحامي في إبراز دفوعاته القانونية. لقد أثرى جيل من القضاة والمحامين الشوامخ من أهل السودان أدب المرافعات القضائية بالكلمة المبدعة وهي تمزج ما بين رصانة القوانين وبراعة الصياغة التي تحاكي اللؤلؤ المنثور... وكم من المرافعات صاغها نفر من القانونيين تستحق أن تتبوأ موقعها بين النفائس من كتب الأدب. كتب د. ه. لورانس الكاتب البريطاني (1885- 1930) روايته الشهيرة (عشيق الليدي تشاترلي) في عام 1928م، وقد صُنفت في ذاك الزمان تحت باب الأدب الفاضح مما أدى إلى حظر نشرها في بريطانيا. كان الناشر دار (بنجوين)، دار النشر العريقة والشهيرة إلى يومنا هذا. لم ترضخ بنجوين لقرار الحظر وذهبت بالقضية إلى المحكمة. حشدت بنجوين جهابذة المحامين الذين يجمعون ما بين الفكر القانوني المرموق والتبحر في الثقافة والأدب، حتى تكاد تحار... أمحامون أما أدباء هذي الشخوص التي تختال في أرواب المحاماة ؟ وعلى الجانب الآخر حشد الاتهام كوكبة أخرى لا تقل عن هؤلاء، وكأنى بالمحكمة قد تحولت إلى منتدى أدبي رفيع المستوى. كان السؤال المحوري في هذه القضية هو تعريف كلمة إباحي OBSCENE... فالدفاع يرى أن د. ه. لورانس برغم مفرداته السافره والعارية في الكتاب والتي صدمت المجتمع الإنجليزي المحافظ إلى درجة التزمت وقتها، كان شأنه شأن جراح بارع يُعمِل مبضعه في تشريح سلوكيات النفس البشرية دون مواربة أو ستر... بينما يرى الاتهام أن الجموح في وصف المشاعر الحميمة إبتزال ووضاعة لا تليق ... أي أن هناك فرق بين الأدب (وقلة الأدب). إنتهت هذه التظاهرة الأدبية في ردهات المحاكم بالإفراج عن (عشق الليدي تشاترلي) ليحقق الكتاب أعلى أرقام البيع وقتها، وتم السماح بطباعته بعد أن كان يطبع في فرنسا وأمريكا ويهرب سراً إلى الجذر البريطانية. ولأن القائمين على دار بنجوين للنشر كانوا- ومازالوا- من فطاحلة الناشرين في العالم، فقد قاموا بطباعة مرافعتي الدفاع والاتهام بكل ما فيها من بهاء الفكر ونصاعة الأدب في كتاب حمل إسم (محاكمة الليدي تشاترلي)، تبوأ مكانه في متاجر ومكتبات بنجوين إلى جوار الكتاب محور القضية ففاقت مبيوعاته هذا الأخير. يبقى السؤال:- أو ما تزال ردهات المحاكم في السودان تعبق بأنفاس الأدب الرفيع.. أم تراه أضحى أرشيفاً يعلوه الغبار؟