ومن اجل الحقيقة يجب الاعتراف بأن نيفاشا كانت الناتج الاخير ( Synthesis ) لسلسلة طويلة من التطور السياسي كانت دائما تصب في اتجاه تغليب فرصة الانفصال بعد ان صعّدت الحركات المسلحة الجنوبية مطالبها من الحكم الذاتي الاقليمي والكونفدرالية الى حق تقرير المصير ضمن مقررات مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية في 1995 ، ولذلك فعندما جلس الشريكان للمفاوضات في نيفاشا بعد أن أرهقتهما الحرب وأكلت كل زرعهم وضرعهم وأبناءهم على مدى ٍإحدى وعشرين عاماً وجدا أنهما أمام احدى خيارين لا ثالث لهما تحت وطأة الإرهاق من جهة والضغط الدولي من جهة اخرى بعد ان صار إستخراج البترول أهمية قصوى بجانب الاعتبارات الاخرى التى ذكرت آنفاً ، فكان إما الاتفاق على إستمرار الوحدة السياسية بعد إعادة صياغة مبادئ دولة مدنية حديثة بالمفهوم الغربي لخلق( السودان الجديد ) والذي يعني تنازل ( الانقاذ ) عن مشروعها الحضاري بما فيه تطبيق الشريعة الاسلامية علي كل أنحاء الوطن ، او الخيار الثاني المُوجب لحق تقرير المصير والذي يعني عمليا الانفصال المقنن دستورياً للجنوب لإنشاء دولته الجديدة . هذا منظور مقروء للجميع حتى الذين يتبنون نظرية المؤامرة . وهي ان جاز تصورها تقوم على أن الفكرة الاساسية في كل التطور السياسي الذي نشأ عن نيفاشا هو التمهيد من كل الاطراف ( المؤتمر الوطني - الحركة الشعبية - المجتمع الدولي الراعي للاتفاقية ) لجعل الاتفاقية مسوّغاً دستوريا تاريخياً لخلق دولة الجنوب، وفات عليهم، او ربما لم يعد يهمهم، ان يدركوا أن الامر ليس بهذه البساطة. إذ ان مثل هذه القرارات المصيرية لن تؤثر على الجنوب لوحده وانما على كل السودان بل وكل المنطقة المجاورة له بحكم ديناميكية التداخل في عصر لم يعد الإنعزال والانكفاء على الداخل ممكناً بأية حال من الاحوال . هذا ليس لطماً على الخدود ولكنه جلد للذات الشمالية والجنوبية بأن حقائق اليوم على الارض وبكل مآسيها والحالة الدرامية التي يعيشها السودانيون من توجس ورهاب نفسي نحو فقدان أعز ما يملكون والتي هي وحدتهم وقوميتهم التي حتى وان شابها كمّ كبير من الازمات فان معالجتها بالحكمة و الصبر والارادة الوطنية المخلصة لهوأهون بكثير من اللجوء للمبضع وسياسة البتْر قبل محاولة التضميد . ولعل هناك نظرية الآن تقول ان العاطفة تحكمت في قرار طرفي نيفاشا بعد ان أعياهما التفاوض وهم يحملون علي ظهورهم عبء سنوات من المحاولات الفاشلة لتضميد الجراح والوصول لمعادلة تحقق المصالحة الوطنية على اساس المواطنة في سودان واحد، فكان أن كشفا أوراقهما علي الطاولة منذ الوهلة الاولى وذلك بتقديم المؤتمر الوطني لخيار الانفصال الدستوري كأعلى صيغة لأبداء حسن النية من المؤتمر الوطني وفي النفس مافيها والله اعلم!! أما الحركة الشعبية فقد لعبت ايضا ( بجوكرها ) والذي هو الاصرار علي الخروج بالمكسب التاريخي بحق تقرير المصير هدية وتبريراً معنوياً ونصراً عسكرياً لكل أبنائها الذين ظلوا يحاربون من أجل ذلك المكسب لأكثر من عشرين عاماً . إذن فلنقف هنا في المحطة الاخيرة .. محطة تحديد مصير السودان ( وليس الجنوب لوحده فقط إذا أخذنا تبعات الانفصال في الاعتبار ) . وهي وقفه لابد أن تكون أمينة مع النفس . ان امكانية جعل الوحدة جاذبة والمؤتمر الوطني والحركة يحكمان ويشرفان على الاستفتاء لقيامه في ميقاته المضروب حتى وإن كان توافقاً مع إستحقاقات نصوص اتفاقية السلام ، كل ذلك يجعل الجميع بما فيهم ( ستات الشاي ) يتأكدون أن الانفصال هو الحقيقة الآتية بلا شك . وبالتالي فإن العقلاء والوطنيون والواقعيون سيوجهون أنظارهم مباشرة الى المرحلة التالية لتفادي فشلها كما فشلت المرحلة الاولى التي أتت بالانفصال . والمرحلة الثانية هي تأمين السلام والحفاظ عليه كأساس للعلاقات بين الدولتين ، لجملة المصالح المشتركة أولا وثانياً لان قيام علاقه متوترة دع عنك حرب حدودية لن يكون في صالح أي منهما . ورغم الوقع الثقيل على نفوس أغلب السودانيين في الشمال ، وليتني استطيع ان اقول نفس الشيئ عن الجنوب، لكن على أقل تقدير عدد مقدر منهم يدرك مخاطر الانفصال الحقيقية ومحاسن الوحدة على علاتها ، رغم هذا الواقع المرير الا إن الواجب الوطني أصبح ملزماً للجميع بدراسة متأنية لتخفيف الاضرار . ترسيم الحدود المقنعه للطرفين وحسم المصالح الفنية لإستغلال البترول والمصالح الاقتصادية المشتركة الاخرى مثل الديون والمياه ، وكذلك تفادي المشاكل المتوقعه حول تحديد الهويات الجنوبية وكيفية التعامل معها في الفترة التي سيستمر فيها التمازج بالضرورة ، بالاضافة لحلحة مشاكل تاريخية لايمكن صياغة حلولها على الورق فقط لان تطبيقها سيأخذ زمنا بحكم أنها مناطق تماس مثل ( أبيي ) و( جنوب كردفان ) و( النيل الازرق ). كل تلك الملفات تحتاج لكثير من العمل الجاد والصادق والامين إذا اريد للانفصال ان يعزز السلام ولا يصعّد الحرب . نعلم الآن إن هناك إتجاهاً قوياً وعاماً من أغلب القوى السياسية ، بل حتى المفوضية المعنية بالاستفتاء تؤكد على إستحالة قيامه وفق الجدول الزمني المضروب رغم الرفض والاستنكار الشديد اللهجة من الحركة الشعبية لاي تأجيل . ولعل السبب الواضح للحديث عن هذه الصعوبة هو الحسابات البسيطة للزمن والاستعدادات اللوجستية لمقابلة إستحقاقات هذا الاجراء التاريخي والتي هي حتى الآن غير متوفرة سواء عن عمد من جهة الحكومة ، أو لسوء إدارة الشأن منذ أول وهلة ، وهو أمر ليس بمستغرب أو جديد ، فقد صار كل تاريخ الشريكين وربما بنصيب أوفر للمؤتمر الوطني ، هو الاخفاق في الالتزام بكل دقائق وتفصيلات انزال إتفاقية السلام على الارض . وليس الانتخابات القومية ببعيدة عن الأذهان . بل حتى الجزء الخاص بالاستفتاء الذي تم حتى الآن لا يعكس اي جدية في الالتزام بنصوص الوثيقة التي صنعاها سوياً بعيداً عن جلّ الشعب السوداني . ولعل موقف المؤتمر الوطني هو نوع من الاستدراك وان جاء متأخراً كثيراً ، بأن ما نحن مقبلون عليه والنتيجة المحسوبة والمحسومة سلفاً بالانفصال إنما سيكون وصمة في جبين من يجلس على دست الحكم وسيكتب التاريخ أن الانفصال وقع في عهد حكومة هذا النظام ، ومن هنا تجئ المحاولات المستميتة المتأخرة لكبح جماح التيار المتسارع نحو إتمام الاستفتاء . غض النظر عن مدى إستيفائه لشروط إقامته وحتى المحاولات المستميته مؤخراً للمؤتمر الوطني لإشراك أو لتوريط اكبر قدر من القوى السياسية في الدعوى المحمومة والمتأخرة فعلاً لجعل الوحدة جاذبة لابناء الجنوب ، إنما هي إحدى مناورات المؤتمر الوطني لما يمكن تسميته بمحاولة ( تفريق الدم ) بين القبائل والتي هي بقية القوى السياسية التي أُقصيت منذ البداية عن صناعة القرارات المصيرية ، حتى ينجو المؤتمر الوطني بنفسه من الوْزر الكبير الذي سيتبع الانفصال . وفي رواية اخرى هي محاولة تأخير ساعة إقفال بورصة البترول و إطالة زمن الضخ لآخر لحظة لمزيد من المكاسب والله أعلم !!! والبعض يحسب ان موقف المؤتمر الوطني ظاهرياً هو مع الوحدة ولكن سياساتهم وممارساتهم تدفع بإتجاه الانفصال بما في ذلك تعطيل بنود الاتفاقية بدءاً بعدم الالتزام بنصها بالتلكوء في إقرار قانون الاستفتاء قبل نهاية السنة الثالثة . كذلك نعلم أن الحركة الشعبية وحكومتها في الجنوب لديها الخيارات البديلة اذا ماتم تعطيل أو تأجيل الاستفتاء عن موعده ، وهي اشارات صدرت عن أمينها العام وعدد من قيادييها في إشارة لإمكانية إعلان استقلال الجنوب الآحادي ( من جانب واحد ) من داخل برلمانها أسوة بما فعل السودان نفسه باستقلاله عام 1956 . إذاً فلنواجه الحقيقة ونعترف بأن الاستفتاء هو واقع صنعه الشريكان بأيديهما ولايمكن النكوص عنه الا اذا توفرت لديهما معاً الرغبة الحقيقية والصادقة في مراجعة الامر بإعتباره قانوناً وضعياً من صنع الانسان يمكن ان يعاد النظر فيه حسب تغير الظروف والقرائن . وبديهي إن كل هذه الاعتبارات ليست غائبة عن الطرفين ولاعن شركائهم من المجتمع الدولي الذين رعوا الاتفاقية ، وتبقي العبرة في وجود الإرادة الوطنية والتوافق التام بين الشريكين على إعادة النظر في ما غزلاه بأيديهما . ولعلي لست بحاجة لتذكير المختصين في القوانين الدولية ان هناك إتفاقيات عديدة في التاريخ الحديث والقديم خضعت لعمليات إعادة صياغة وبملاحق ومذكرات تفسيرية لاحقه الغرض منها الاستدراك والتصويب والمواءمة للمتغيرات والتطورات التي تجئ بعد فترة من النصوص الأصلية للاتفاقية خاصة بعد ان تمر بمرحلة أولية للتطبيق تُظهر عيوباً أو نواقص لم يَحسب حسابها المشرّع في المرحلة الاولى ، وهذه الممارسة بالطبع بعيده تماما عن شبهة النكوص أو عدم الالتزام ذلك إذا تمت بالتوافق بين الاطراف المعنية . اخيراً، هل من السذاجة أن يتساءل المرء حيال كل هذا الزخم القانوني والدستوري المبني على إتفاقيات عسكرية وإعتراف دولي بالامر الواقع ( de facto ) وليس المبني علي تطّور شرعي دستوري ( de juri ) وفي مقابل تغيّب كامل لامة بأكملها عن تقرير مصيرها وليس مصير جزء منها ، هل يجوز للانسان المعني في هذا الوضع المرفوض من قبل الاغلبية أن يحلم بوقفة مع النفس لمراجعة هذا الواقع المتصادم مع مصلحته ورغباته وآماله مقابل أزمات محدودة الزمان والمكان ، وان يحلم بتجاوز هذه الاوضاع لفرصة أحسن منها ؟؟ وكما قال الزعيم مارتن لوثر كنج في مطلع الستينيات ( انا لدي حلم ) ( I have a dream ) وهي مقولة أدت الى تغير المجتمع الامريكي تغيراً جذرياً أتي في آخر المطاف برئيس أمريكي أسود لم يكن حتى ضمن حُلم الناشط الامريكي كنج وقتذاك . كما اننا لاننسي مقولة الدكتور قرنق في مستهل المفاوضات التي أفضت الى سلام نيفاشا حينما كان التشاؤم سيد الموقف وقال وقتها ان الوضع مشوها لدرجة يستحيل معها الاصلاح !! ( The situation is too deformed to be reformed ) ومع ذلك خاض المفاوضات التى أتت بالسلام !! الحلم و الاماني التي لايملك الناس غيرها في مواجهة المؤتمر الوطني والحركة الشعبية أصحاب القرار الفعلي وصانعي نيفاشا ودستور 2005 هو أن يستجيب هؤلاء لصوت الضمير والرغبة الشعبية للسودانيين جميعاً بأن يعطوا الناس فرصة اخرى لتحقيق إمكانية التعايش وبناء الثقة المفقودة وذلك بعد أن وعي الجميع الدرس وصاروا على شفا الهاوية ولم يعد يخفي عليهم إن الحقيقة يصنعها أصحابها بقناعاتهم بها أولاً ثم الالتزام بها لتصبح واقعا . فمن صنع نيفاشا يستطيع أن يتحرك داخل إطارها ولا نقول الغاءها بإعمال روح الإتفاقية قبل الاٍلتزام الآلى بنصوصها. وهي ليست منزّلة على كل حال ولا مثل صكوك الغفران!! . فقط المطلوب بعض من الوقت من أجل محاولة أخيرة لصياغة مستقبل أفضل في وطن كان و ظل ويمكن أن يستمر يسع الجميع .