انتدابات الهلال لون رمادي    المريخ يواصل تدريباته وتجدد إصابة كردمان    مشاد ترحب بموافقة مجلس الأمن على مناقشة عدوان الإمارات وحلفائها على السودان    مركز الملك سلمان للإغاثة يدشن تسليم الدفعة الثانية من الأجهزة الطبية    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    شمس الدين كباشي يصل الفاو    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    البيان الختامي لملتقى البركل لتحالف حماية دارفور    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    تجارة المعاداة للسامية    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    سوق العبيد الرقمية!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإسلام والعرب في السودان (1-2)
نشر في الصحافة يوم 05 - 10 - 2010

كان للطريقة المنظمة اللاحقة التي دخل بها العرب الى السودان، أثرها السلبي في تكوين النخب العالمة والمفكرة، وهذا هو المخزون التراكمي لحملة رايات التنوير والنهضة والعقلانية. وهذا للأسف ما لم يقم به العرب الاوائل، فلم يهتموا بالعلم والدين والمعرفة، بل كان همهم أن تمتلأ خزائن السلطان، وأن يجلبوا الموارد البشرية للجندية والزراعة وخدمة القصور. وظلت هذه العلاقة مستمرة ولم تتغير مع تغير السلاطين والخلفاء والامراء. فلا بد من قراءة أكثر عمقا وحيادية وموضوعية. خاصة أن لحظات النهضة والتنوير لا تحدث فجأة، ولا بد من الامتداد والتواصل. والسودان بلد الانقطاعات الحضارية بسبب «الخراب» الذي يحيق بكل حضارة سابقة.
«1»
دخل الاسلام الى السودان على انقاض ممالك مسيحية منقسمة لم تستطع توحيد نفسها رغم اشتراكها في دين واحد، وهذا ما اضعفها وسهّل سقوطها. ولم تصمد المسيحية أمام دينامية الفاتحين والمهاجرين المسلمين المتدفقين من شبه الجزيرة العربية منطلقين الى العالم كله. ومن بين المواضع التي قصدتها العناصر الإسلامية، شمال افريقيا وبالذات مصر ومنها كان التدفق الاسلامي الهائل نحو بلاد النوبة. فقد بدأ احتكاك وتفاعل مباشران، بعد دخول عبد الله بن سعد بن أبي السرح الى مصر. ومن الثابت أن السودان الشرقي قد عرف الهجرات العربية منذ فترة بعيدة قبل الاسلام. فقد نزحت بعض المجموعات بسبب الصراعات القبلية أو شح الغذاء، وعبرت هذه القبائل البحر الأحمر مباشرة أو أتت من الشمال عن طريق مصر، أو من الساحل الشمالي لإفريقيا. وفي هذا الاثناء، جاءت قبائل بني هلال وبني سليم وجهينة وربيعة والجعافرة وقبائل مغربية من البربر. ويرى بعض المؤرخين أن بلاد البجا قد عرفت مبكرا قبل الإسلام هجرة الحضارمة، ثم تحولوا الى الاسلام، واطلق عليهم البجا اسم الحدراب.
وتفاعلت بلاد النوبة ايجابيا مع الهجرات العربية السابقة للاسلام، لذلك كان من السهل على القبائل والمجموعات العربية المسلمة لاحقا، أن تجد طريقها الى الممالك النوبية المسيحية منذ القرن السابع الميلادي. ومثال ذلك ما يقوله «عابدين» إن المجموعة التي تسمى: المجموعة الجعلية أو المجموعة الجعلية-الدنقلاوية، والتي سكنت السودان الشمالي، كان أثرها أقوي وأشد مقارنة بالمجموعة الجهينية الاكثر عددا. فقد تمكنت هذه المجموعة من التمازج مع السكان المحليين ونشرت الإسلام والعربية الى حد كبير. ومن المعلوم أن الإسلام لم يدخل السودان من خلال غزوات والفتح العسكري، لذلك كانت عملية التحول الى الدين الإسلامي بطيئة للغاية. كما كان التدين بسيطا أقرب الى القدوة والتقليد منه الى الفكر والمعرفة العميقة. ويلاحظ «حسن»: «أن سودان وادي النيل لم يصبح بلدا مسلما الا بعد قيام السلطنات الاسلامية كالفونج والفور وتقلي. والسبب في ذلك أن الديانة المسيحية لم تمت بسقوط الكيان السياسي في مملكتيّ النوبة وعلوة، بل بقيت المسيحية في بعض مظاهرها حتى وقت متأخر. وقد ظلت الشعائر المسيحية تمارس في أقصى شمال السودان حتى اواخر القرن الخامس عشر.
وظلت العلاقات بين بلاد النوبة والمسلمين في مصر متوترة باستمرار. وقد تميزت بالمناوشات وتهديد الحدود، وخطوط تجارة القوافل، خاصة بعد أن فتح المسلمون مصر على يد عمرو بن العاص عام 20ه/641م، في عهد عمر بن الخطاب. وتواصلت محاولات اخضاع بلاد النوبة، فقد ذكرت المراجع العربية الوسيطة، أن عمرو بن العاص بعث عقبة بن نافع الفهري، وكان نافع أخا العاص لامه. فدخلت خيول المسلمين أرض النوبة، ويقول البلاذري: «.. فلقي المسلمون بالنوبة قتالا شديدا. لقد لاقوهم فرشقوهم بالنبل حتى جرح عامتهم، فانصرفوا بجراحات كثيرة وحدق مفقوءة، فسموا«أي النوبة»رماة الحدق». ولم تكن المعركة حاسمة، لذلك عاد النوبيون بعد فترة وجيزة الى الاغارة على الحدود والقوافل، وانتهت الهدنة القصيرة. اما عبد الله بن سعد بن ابي السرح، فقد استهل عهده بحملتين عاميّ20 21ه /641م و30 31ه /651م. فقد قرر أن يضع حدا لتهديدات النوبة، فجرد جيوشه الى النوبة ووصل الى دنقلا وحاصرها ورماها بالمنجنيق الذي أفزع النوبيين، فطلب الملك قليدروت الصلح. وبالفعل تم توقيع اتفاقية البقط. وهي كما يقول ابن الحكم، هدنة امان لا عهد ولا ميثاق. وهي في حقيقتها أقرب الى معاهدة تجارية وسياسية بين مصر الاسلامية ومملكة دنقلا المسيحية، أو مجرد معاهدة حسن جوار تضمن حرية الحركة والتجارة بين البلدين. وهي تختلف عن كل اشكال المعاهدات الاخرى التي عقدت بين المسلمين وغير المسلمين. وقد جاء في نص اتفاقية البقط ما يلي:
«.... أنكم معاشر النوبة آمنين بأمان الله وأمان رسوله «ص» ألا نحاربكم ولا ننصب لكم حربا ولا نغزوكم ما أقمتم على الشرائط التي بيننا وبينكم على أن تدخلوا بلدنا مجتازين غير مقيمين فيه. وندخل بلدكم مجتازين غير مقيمين فيه. وعليكم حفظ من نزل بلدكم أو يطرقه من مسلم أو معاهد حتى يخرج عنكم . وأن عليكم رد كل آبق «هارب» خرج اليكم من عبيد المسلمين حتى تردوه الى أرض الاسلام. ولا تستولوا عليه ولا تمنعوا منه. ولا تتعرضوا لمسلم قصده وجاوره الى أن ينصرف عنه. وعليكم حفظ المسجد الذي ابتناه المسلمون بفناء مدينتكم. ولا تمنعوا منه مصليا. وعليكم كنسه واسراجه وتكرمته. وعليكم في كل سنة ثلثمائة وستون رأسا تدفعونها الى امام المسلمين من أوسط رقيق بلادكم غير المعيب يكون فيها ذكران وإناث ليس فيها شيخ هرم ولا عجوز ولا طفل لم يبلغ الحلم. تدفعون ذلك الى والي اسوان«. . . .» فإن أنتم آويتهم عبدا لمسلم أو قتلتم مسلما أو معاهدا أو تعرضتم للمسجد الذي ابتناه المسلمون بفناء مدينتكم بهدم أو منعتم شيئا من الثلثمائة رأس والستين رأسا فقد برئت منكم هذه الهدنة والأمان، وعدنا نحن وانتم على سواء حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين».
ومن الملاحظ أن المسلمين لم يلتزموا بدفع أي شيء للنوبيين في المقابل. ولكن جرى العرف على ان يقوم المسلمون بإرسال كمية من الحبوب والملابس الى النوبيين. وهذا ما يراه «مسعد» نتيجة اقتناع عبد الله بن سعد بحاجتهم اليها لفقر بلادهم، فصار هذا التقليد رسما اتبعه كل من جاء بعده من ولاة المسلمين. ويرى في عدم التزام المسلمين بدفع شئ رسميا ما يوحي بادعاء نوع من السيادة في بلاد النوبة، من وجهة نظر اسلامية. كما لم يلتزم المسلمون بالدفاع عن النوبيين اذا هاجمهم عدو خارجي.
وهذا شكل مختلف تماما عن المعاهدات التي أبرمها في البلدان التي فتحت عنوة. ويرجع بعض المؤرخين ذلك العهد المختلف الى فقر البلاد وسوء حالتها الاقتصادية. كما أن المسلمين لم يروا بأسا في مجاورة دولة مسيحية ليست ذات خطر، خاصة ان المسلمين قد واجهوا في المراحل الاولى للتوسع الاسلامي مشاكل كثيرة داخلية وخارجية، رغم أن المادة الخاصة برعاية المسجد الموجود في المنطقة والاجراءات المنظمة للنشاط الاقتصادي، قد مهدت لاحقا بانتشار الموجات المهاجرة من رأوا ضرورة التفرغ لها وعدم تشتيت الجهود.
«2»
لم يتضمن البقط منطقة البجا، اذ لم يرد عنهم نص في المعاهدة. ويبدو أن عبد الله بن سعد لم يعطهم اي اعتبار كما يقول بعض المؤرخين مثل ابن عبد الحكم لأنهم لم يمثلوا خطرا على المسلمين. ولكن البجا أغاروا على صعيد مصر حوالي عام 725م، فصالحهم ابن الحبحباب وكتب لهم عقدا خاصا. وقد نص العقد على أن يدفعوا ثلثمائة من الابل الصغيرة، وعلى أن يجتازوا الريف تجارا غير مقيمين، والا يقتلوا مسلما أو ذميا وألا يأووا عبيد المسلمين، ويظل وكيلهم في الريف، رهينة في يد المسملين. ولكن البجة عاودوا مهاجمة المسلمين وأغاروا على قوافلهم من جديد في منطقة أسوان. لذلك جرد عليهم الخليفة المأمون حملة بقيادة عبد الله بن الجهم سنة 841م، انتهت بعهد جديد مع رئيسهم كنون بن عبد العزيز، ومن أهم شروطه:
1- أن تكون بلاد البجة من حد أسوان الى حد مبين دهلك «مصوع» وباضع «جزيرة الريح» ملكا للخليفة، وأن كنون بن عبد العزيز وأهل بلده عبيد لأمير المؤمنين، على ان يبقى كنون ملكا عليهم. وأن يؤدي ملك البجة الخراج كل عام مائة من الابل أو300 دينار لبيت المال.
2- أن يحترم البجة الإسلام ولا يذكروه بسوء، وألا يقتلوا مسلما أو ذميا حرا أو عبدا في أرض البجة أو في مصر أو النوبة، وألا يعينوا أحدا على المسلمين.
3- ألا يهدموا شيئاً من المساجد التي ابتناها المسلمون بصيحة وهجر.
4- وعلى كنون أن يدخل عمال أمير المؤمنين بلاد البجة لقبض صدقات من أسلم من البجة.
وهذا عقد مختلف عن البقط الذي أبرم مع النوبة، اذ يلاحظ أن بلاد البجة حتى مصوع صارت جزءا من الدولة الإسلامية، وطبق عليها شروط البلاد المفتوحة، بدليل فرض الخراج. وفي العقد ما يدل على وجود مسلمين في المنطقة مثل شرط عدم التعرض للمسلمين بأذى، وجمع الصدقات من المسلمين، ثم شرط حفظ المساجد القائمة. وهذا يعني دخول جماعات إسلامية لأسباب مختلفة وبطرق شتى الى بلاد البجة.
وظلت علاقة النوبيين مع المسلمين متوترة باستمرار مما أثّر على استقرار وتطور بلاد النوبة، فقد لعبت اتفاقية البقط دوراً مهماً في استمرار التنازع والتوتر.
وصف أحد المستشرقين المهتمين بدراسة السودان، اتفاقية البقط بأنها مثيرة للاهتمام. فالمسلمون لم يقوموا بضم بلاد النوبة وقبلوا بجوار دولة غير مسلمة؛ ويقصد بذلك أنهم لم يحاولوا أسلمتها. وقد صمدت الاتفاقية لحوالي ستة قرون حتى العصر الفاطمي. ويعود هذا إلى كونها عهد تعايش وتبادل تجاري، ولم تفرض جزية. فالنوبيون لم يهزموا عسكريا تماما. ويرى «ترمنقهام» أن هذه الاتفاقية قد أرست أسس تجارة الرقيق التي ستكون حسب رأيه من ملامح فترة الحكم اللاحقة، وهي تختلف كثيراً عن الرق أو العبودية المنزلية. ويرى بعض الباحثين أن اتفاقية البقط كانت بالغة القسوة على أهل النوبة، ولم تكن صيغة البقط هي الشكل الوحيد لجلب الرقيق من النوبة، فقد سمحت الاتفاقية للمسلمين بالدخول الى بلاد النوبة لشراء الرقيق، كما لا تمنعهم من القيام بانتزاع العبيد بأنفسهم بالقوة. واستمرت عملية جلب الرقيق النوبي الى جانب رقيق البقط لسنوات طويلة. ويكتب«بن عامر»: «وقد ازدهر هذا التيار التجاري، ولا سيما في عهدي الطولونيين والاخشيديين. وأصبح الصعيد المصري معبرا لهذه البضاعة الآدمية. وفي هذا العصر ظهرت قضية الجلاب الذي سنجده باستمرار بعد ذلك».
«3»
لم تتوقف الحملات الإسلامية من الشمال على بلاد النوبة، لأن الاتفاقية كانت باستمرار عرضة للانتهاك والخروج عنها بسبب قسوتها وظلمها. وفي هذه الحالة يقوم الحكام والولاة المسلمون باستخدام القوة، خاصة عند امتناع النوبيين عن دفع البقط. ومن المرجح أن النوبيين كانوا يقومون بالاغارة على القبائل والجماعات المجاورة لهم للحصول على الاعداد المقررة عليهم من الرقيق. وتذكر بعض المصادر أنهم تسببوا في تخلف المجتمع النوبي وتعطيله عن التطور والنمو، وحرمانه من تجديد عناصره في الجيش والانتاج. وكان النوبيون كثيري التمرد على دفع البقط، خاصة في فترات انتقال الحكم العديدة التي عرفتها مصر بسبب عدم الاستقرار. كما استغلوا في بعض الاحيان فترات ضعف الحاكمين في مصر، ليتوقفوا عن الدفع. ويقول القوصي: «فقد كان ملوك النوبة بتقصي الاخبار عن حالة مصر قوة وضعفا.. فاذا وجدوا الظروف في صالحهم امتنعوا عن دفع البقط، وهاجموا البلاد منتهزين فرصة ضعفها. وكان ذلك يحدث دائما في أوقات الاضطراب وفي فترات الضعف.. غير أن حكام مصر سرعان ما كانوا يردون على الغارات بغارات مماثلة على بلاد النوبة عندما كانت تتهيأ لهم ظروف الاستقرار الداخلي في البلاد.
ومن الواضح أن اتفاقية البقط لم تحقق سلما دائما بين النوبيين والمسلمين، ولكن مع ذلك تمسكت بها كل الاسر الحاكمة وظلت سائدة قرابة سبعة قرون. ويبدو ان اتفاقا ضمنيا ومعلنا بين الطرفين ثبّت مبدأ الدفع، وإن ظهر أحيانا خلاف حول الفترة: هل كل عام أم كل ثلاث سنوات أم مرة واحدة فقط؟ ولكن تفسير المسلمين رأى فيها التزاما ابديا لا يسقط عن النوبيين ابدا. وتقول المصادر أنها قد نفذت كاملة في عهد ولاة مصر من قبل الخليفتين عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وفي عهد الخلفاء الامويين والعباسيين. ولكن في عهد الخليفة المهدي وفي عهد المعتصم الخليفة قبل الاخير في العصر العباسي الاول «833 842»، حصل النوبيون على استثناء يقضي على أن يؤدي البقط كل ثلاث سنوات حسب ادعاء النوبيين. وقد حدثت بعض الانقطاعات في عهد المأمون «813 833» حيث توترت العلاقات لمدة أربع عشرة سنة من العداء. واعقبت ذلك حروب انتقامية، مثل حملة عام 855 في ايام الخليفة المتوكل اول خلفاء العصر العباسي الثاني. وحملة عام 951م في أيام المطيع لله الخليفة الرابع عشر في العصر العباسي الثاني «946 974»، عندما كان الاخشيديون يحكمون مصر. وبعد عهد المتوكل «847 861» لم يعد حكام مصر يختارون من العرب بل من الاتراك المنافسين للعرب وفقد العرب نفوذهم، وكان من نتائج ذلك تأسيس الدولة الطولونية علي يد أحمد بن طولون، والذي أعد حملة سنة 868م بقيادة العمري. والذي يقول عنه «مسعد» انه أحد رواد الثقافة الاسلامية الاول الذين يدين لهم النوبة والبجة بالاسلام. ولكن في مصر «وصلته أنباء مناجم الذهب بالنوبة والعلاقي فسال لعابه، وهكذا تحول رجل الدين الى مغامر كبير. واجتمع اليه كثير من طلاب المعدن، وسار على رأسهم نحو بلاد النوبة وأرض البجة». وهذا مثال لغياب علماء محترفين ومتفرغين لتعليم اصول الدين الاسلامي للسودانيين. خاصة أن الاسرة الحاكمة اللاحقة لم تنشغل قصدا بنشر الإسلام والفقه الاسلامي المجمع عليه.
واستقل الاخشيديون بحكم مصر خلال الفترة من935م حتى 969م، واستمروا بنفس حماس سابقيهم في جباية رقيق البقط، وقد سيروا عددا من الغزوات على النوبة الذين شعروا بضعف الدولة الإسلامية في الشمال فتمردوا عليها عدة مرات ورفضوا دفع البقط. ومن أشهر هبات النوبيين، قيامهم بالإغارة على الواحة الخارجة عام 951م واتبعوها بحملة أخرى على أسوان عام 956م حيث قتل ملك النوبة جمعا من المسلمين. وسيَّر الاخشيديون في العام التالي حملة بقيادة محمد بن عبد الّله الخازن على عسكر مصر، والذي هزم النوبيين وتقدم حتى ابريم وسبى كثيرا من اهلها وقدم بهم الى مصر. ويعلق «مسعد» على هذا الوضع: «بيد أن هذه الهزيمة لم تضع حدا لهجمات النوبيين على حدود مصر من ناحية الجنوب فتجددت إغاراتهم على صعيد مصر زمن كافور، وتقدموا شمالا حتى ادفو منتهزين فرصة اضطراب الأحوال في مصر، وقيام المجاعة فيها بسبب انخفاض مياه النيل وتعرضها من الشرق لتهديد القرامطة. وليس من المستبعد أن تكون هذه الاغارات النوبية نتيجة لدعاية فاطمية واسعة، الغرض منها اضعاف الادارة المصرية وشغلها في أكثر من جهة حتى لا تركز جهودها ضد الزحف الفاطمي من الغرب». وقد قال الشاعر في غزوة كافور الاخشيدي هذه:
ولما غزا كافور دنقلة غدا بجيش
لطول الأرض من مثله عرض
غزا الأسود السودان في رونق الضحى
فلما التقى الجمعان أظلمت الأرض
وتورد بعض المصادر أن عدد الرقيق المدفوع قد تزايد بعد هذه الغزوة، فاضيفت عشرون رأساً لعامل اسوان وخمسة رؤوس لقاضي البلد. وأصبح الصعيد معبرا لهذه البضاعة البشرية المرغوبة لدى المسلمين. وقد ساهم هذا الرقيق النوبي في تكوين كتائب السود التي وجدت في جيوش الطولونيين والاخشيديين.
«4»
ويرى كثير من المؤرخين أن عهد الفاطميين في مصر «969 1171م» كان أقل توترا في علاقة المسلمين والنوبيين، رغم استمرار الفاطميين في المطالبة بدفع البقط. فلما أتم جوهر الصقلي قائد الخليفة المعز لدين الله الفاطمي فتح مصر؛ أرسل أحمد بن سليم الاسواني الى جورج الثاني ملك النوبة، مطالبا بالبقط على أساس أن الفاطميين هم الآن حكام مصر. واستجاب ملك النوبة، فقد كان يعرف قوة وقدرة الفاطميين. وجاء في بعض المصادر أن جوهرا دعا الملك جورج الى اعتناق الاسلام ولكنه لم يستجب للدعوة. وهذه مسألة واردة بسبب حماس الفاطميين للدعوة والتوسع والترويج للمذهب الشيعي في هذه المناطق. ورغم ذلك، استمرت العلاقة ودية بين الطرفين، لأن الفاطميين لم يروا خطرا حقيقيا في وجود دولة مسيحية على حدودهم الجنوبية. يضاف الى ذلك، أن الفاطميين اقاموا بصورة دائمة في ثغر اسوان من جهة الشلال الاول. وشهدت هذه الفترة ميلاد امارة عربية قوية اتخذت مدينة أسوان مركزا لها، وامتد نفوذها جنوبا في أرض مريس، وأنشأ هذه الامارة زعيم من عرب ربيعة. ورغم نشوب النزاع بين بطون ربيعة، إلا أن هذه العشيرة كونت طبقة حاكمة خضع لها النوبيون في مريس بعد زوال السلطان الفعلي لملك النوبة المسيحي، وتحول معظم السكان الى الاسلام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.