ضاق شارع الجمهورية بالحشود التى توافدت من كل صوب وحدب بمختلف الوان الطيف السودانى للإحتفال بذكرى إعلان الإستقلال من داخل قبة البرلمان آنذاك بتاريخ 19/12/1955م حيث إمتلأت ساحة المجلس التشريعى بالحضور، وعلى غير عادته خلا شارع الجمهورية المزدحم من المواصلات تماماً وإحتشد بالدبابات والمدرعات الثقيلة فى طابور عرض عسكرى للقوات المسلحة والشرطة فى إحتفال ذكرى الإستقلال. حضور كثيف توافد المئات الى ساحة الحفل بجانب الحشود العفوية المتابعة للفعاليات التى تمددت خارج أسوار المجلس التشريعى ولاية الخرطوم الذى تزين بإعلام السودان فى كل مداخله وظل الحضور يصطف بجانبى شارع الجمهورية من «بنك السلام» والى السوق الأفرنجى، حيث تعطلت حركة المواصلات تماماً وتحول مسارها الى شارع آخر طوال فترة الإحتفال الذى بدأ منذ التاسعة صباحاً وإمتد الى الواحدة منتصف النهار. موسيقى ورقصات شعبية وفى مدخل المجلس التشريعى وداخل أسواره صدحت الفرق الإنشادية وهى تردد رائعة الفنان الراحل حسن خليفة العطبراوى «انا سودانى أنا .. يابلاداً حوت مآثرنا كالفراديس فيضها منن .. ايقظ الدهرُ بينهم فتناً ولكم أورت الورى الفتن» وشكلت فرق الفنون الشعبية ايضاً حضوراً لافتاً برقصاتها وأزيائها التراثية المميزة وهى تغنى «سوا سوا» و»كلنا أخوان» فرددوا الأهازيج التى تعبر عن ثقافات السودان المختلفة «شماله وجنوبه، شرقه وغربه» فى الوقت الذى غابت فيه الفرق الجنوبية والتى كانت فى السابق حضوراً فى مثل هذه المناسبات. همس الحضور رغم الأجواء الإحتفالية البهيجة الا ان الحزن إكتسى بعض ملامح الحاضرين وهم يسترجعون ويتأملون ذكرى إعلان الإستقلال من داخل البرلمان وينظرون الى «علم السودان» الذى غطى اسوار المجلس التشريعى فكان همس البعض «ربما يكون الإحتفال الأخير الذى يجمع كل السودان شماله وجنوبه، شرقه وغربه» فى إشارة الى ان العيد القادم سيكون مختلفاً تماماً بعد ان بات فى يقين حتى المتفائلين بأن التاسع من يناير لن يأتى بغير الإنفصال وان الوحدة أصبحت مجرد آمال ويصبح الإحتفال القادم بغير الجنوب الذى إختار الإنفصال عن الشمال والشرق والغرب لتصبح الإتجاهات ثلاثة بدلاً من أربعة. طابور عرض وحشود عسكرية وأسلحة ثقيلة ظل الجميع متابعاً طابور العرض الذى نظمته القوات المسلحة وقوات الشرطة اللتان إحتلتا شارع الجمهورية الذى إمتلأ بالدبابات والمدرعات والأسلحة الثقيلة وصيحات الجنود بإهازيجهم و»جلالاتهم» الحماسية التى إختلطت بأصوات الصفير والتهليل والتكبير وبعض المصطفين من الجماهير بجانبى الطريق يبادلونهم التكبير والإبتسامات وعلامات النصر فى إشارات وصفها بعض الحاضرين «بإستعراض القوة وان الشمال قادر ان يحمى مصالحه ومواطنيه» فى الوقت الذى تخوف فيه الكثيرون من عودة فتنة الحرب من جديد بين الشمال والجنوب بعد ان بات الجميع ينشد السلام. اكد نائب رئيس الجمهورية على عثمان محمد طه ان الأجهزة الأمنية والشرطية قادرة على حفظ الأمن والإستقرار وحماية المواطنين فى أنحاء البلاد المختلفة وإتهم جهات لم يسمها بترويج الإشاعات المغرضة بعد ان فشلت سياسياً بإدخال الهلع فى نفوس المواطنين بأن البلاد تمر بحالة إقتصادية مخيفة. الخضر.. سنحترم خيار الجنوب مهما كان وفى مخاطبته لذكرى اعلان الإستقلال من داخل البرلمان أكد والى الخرطوم ان حكومة الولاية ستحترم خيار الجنوبيين مهما كان وحدة او إنفصالاً اذا أتى حراً ونزيهاً يعبر عن إرادتهم وقال تأتى إحتفالات هذا العام وبلادنا تشهد الكثير من التغيرات السياسية ولكنا بحمد الله نمضى من نصر الى نصر وسفينتنا تمضى غير آبهة بكل مايؤخر مسيرتها، وأشار الى ان إتفاقية السلام أنهت الحرب التى قضت على الأخضر واليابس وكان السلام هو الأهم وأضاف «ان القوة التى واجه بها اجدادنا وآباؤنا الإستقلال سنواجه بها هذا الواقع وان مسيرة التنمية لن تتوقف وان الإنفصال حق مهرناه جميعاً لإنهاء الحرب». تكريم رموز الإستقلال وفى الإحتفالية تم تكريم أسر رموز الإستقلال من قبل النائب الأول لرئيس الجمهورية على عثمان محمد طه ووالى الخرطوم عبدالرحمن الخضر ورئيس المجلس التشريعى محمد الشيخ مدنى، حيث كرمت أسرة الزعيم إسماعيل الأزهرى، ومحمد احمد المحجوب وأسرة البطل على عبداللطيف وعبدالفضيل الماظ وأسرتى رائدى الحركة الوطنية عبدالرحمن دبكة، ومشاور جمعة سهل أعضاء برلمان (1959) نائب الرئيس يخاطب الإحتفال وتحدث نائب الرئيس على عثمان محمد طه فى مخاطبته الإحتفال عن الحركة الوطنية وعِبر الإستقلال ودروسه واكد ان السودان سيكون مستقراً وآمناً وتحدث عن مقدرة الأجهزة العسكرية والأمنية والشرطية على حماية مصالح البلاد وقال «الأعين ساهرة والسيف قاطع ونعلم اننا نواجه مرحلة صعبة والذين يبثون الإشاعات عليهم ان يدركوا ان ظرفنا لن يقلب الموازين ولن يخرجنا من إستقرارنا وإتخذنا كافة التدابير»، وأضاف «عليكم ان تطمئنوا ان الأجهزة المختصة أخذت مايكفل معاش المواطنين وبمثل ما إعملت التدابير لحفظ النظام السياسى فهى بذات اليد ستحفظ الأمن الإقتصادى وستضرب بقوة على الفساد ومن يأكلون ويأخذون اقوات الناس وانه لامجال للتسامح والمساومة وتخزين السلع ولن نسمح لأحد ان يتلاعب بمعاش المواطنين». وأوضح طه ان البعض يعمل على زرع الفتن الدينية بعد ان فشلت الفتن السياسية وقال « هى رسالة لهؤلاء ان السودان سيظل آمناً مستقراً اليوم وغداً فى يناير ومارس وسبتمبر وخاب ظنكم وجهدكم» وأضاف «هذا هو السودان الذى نريده بتسامحه الدينى حيث يجلس الأب ثاوس فرج بجوار الشيخ الطيب الجد بأم ضوبان والكنيسة بجوار المسجد». وشدد طه على ان الأمة التى قدمت الشهداء قادرة ان تقدم أرتالاً من أبنائها من اجل المحافظة على شرفها وحاضرها ومستقبلها الذى ستكتبه بوحدة صفها وإرادتها وان السودان لن يزل ولن يقهر». ومن جانب حيا طه كل الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم البلاد عسكريين ومدنيين لافتاً الى انهم لم يكونوا يريدون الا الخير لهذه البلاد وإن إختلفت إدارتهم وأفكارهم وقال» انى أشهد شهادة حق ان الذين تعاقبوا على حكم البلاد من الأزهرى والمحجوب وسر الختم الخليفة وعبود والصادق المهدى ونميرى والى البشير ما ارادوا بأهلهم ضيماً ولا تشتتاً وكانت إختلافاتهم وطنية من أجل النهوض بالسودان وكل بفكره».