ثلاث طائرات ضخمة، من الحجم الكبير، يعملن في لحظة واحدة، وفي مدرّج واحد صغير وضيِّق ومتهالك، والثلاث طائرات، محملات بشحنات ضخمة كبيرة، كل طائرة كفيلة بهز البلاد، من أركانها الأربعة، كانت الطائرة الأولى تحمل عبوّتين ناسفتين صغيرتين، أحدثتا هزاً عنيفاً في الرأي العام، وهي عبارة عن مقطع الفديو الشهير، الذي يظهر إمرأة يجلدها جلآد لينفذ حكماً بأمر القاضي، والعبوّة الناسفة الصغيرة الأخرى، كانت في خطاب الرئيس البشير في احتفالات الحصاد بالقضارف، والتي بدورها أحدثت دوياً كبيراً لايزال ينداح في فضاء هذا البلد الفسيح، كانت هذه الطائرة الضخمة، تزاحم طائرة ضخمة أخرى في مدرّج الرأي العام، الضيّق المنهك المتهالك، وكانت تحمل شحنة ضخمة، أشرف على إعدادها السيّد الصادق المهدي ولفيف من رموز المعارضة، وقد وضع السيّد الصادق بنفسه عبوّة ناسفة، حين اشترط إما تنفيذ مطالبه أو الاعتزال! ولكنّ عبوّته لم تنفجر، فقد «تحتحت» بارودها بيد الرأي العام دون أية أضرار، ولكن بقية الشحنة كانت تعمل في المسار الرئيسي للرحلة، وهو «إزاحة النظام» عبر طرح بعض مليء بالمخاشنة، والمنازلة، وبعضه يجتهد في البحث عن المسوّغ القانوني والدستوري لإزاحة النظام، في حال أصبح السودان دولتين! أمّا الطائرة الضخمة الثالثة، فقد كانت تزاحم في ذات المدرّج المنهك المتهالك، وهي محمّلة بكم غزير من المقالات والتحليلات والحوارات، المقروءة والمسموعة والمرئيّة، نسجت نسيجها من خطاب البشير وفديو وخطاب الإمام وتحركات المعارضة، وخلط كل ذلك وتسويقه مع «وزر الانفصال» وكانت حمولة هذه الطائرة الضخمة ثقيلة مليئة بالبارود، ولكنّ معظمه «فشنك» لأنّ الرأي العام يعرف مواقف الجميع من الشريعة، ويفرز بكل وضوح ماهو خطأ عارض في التطبيق، وما هو «خطيئة» لازمة في المنهج والتفكير والتخطيط. والرأي العام يعرف منهج التيارات الإسلاميّة في فهم الشرع، وأيها أنسب لهذا العصر، فهم التيار الإسلامي الحاكم ؟ أم فهم التيارات الأخرى المجاورة له والمنافرة عنه؟ أمّا إزاحة النظام، في هكذا «فرصة متوهّمة» يعرف الرأي العام، وهو منهك من تناقضات الأحزاب في انتخابات توقفت لأجلها البلاد وحبست أنفاسها لأجلها، وما مضى عليها عام بعد. يعرف هل هي إزاحة واجبة يقتضيها السياق السياسي والدستوري، أم إنها مجرّد أحلام و«انتهازيّة» ليس غير؟. وعن «وزر الانفصال» يعرف الرأي العام، هل هو حق ظلّ يطالب به الجنوبيون منذ أكثر من نصف قرن؟ وتوافقت الأحزاب كلها عليه؟ أم هو «خطأ» و«وزر تاريخي» يتحمّله النظام؟ والرأي العام يعرف الفرق ما إذا كان الخطأ في استمرار الوحدة «50» عاماً من الحرب، أو في سلام يوقف الحرب بثمن تقرير المصير؟ لقد أصبح مدرّج الرأي العام يبدو متهالكاً، أثقله الهبوط الاضطراري الكثيف، والهبوط المبرمج والعشوائي، فلا يكاد يمر يوم في هذا البلد، وإلا تقرأ وتسمع وتشاهد مفاجآت عديدة، وتقلبات متقاطعة غريبة، الرأي العام أثقلته السنون، وأنهكته الأيام، ولكن، برغم كل شيء، فهو لايحتاج لوصيِّ عليه، والخاسر من يبني حساباته بغير مراعاة لوعي الرأي العام، أو يصمم رهانه على غير نضجه. [email protected]