٭ ألحَّ على ابن اخي الصغير بأن احضر له شريط نكات.. اخذتني الدهشة وظننت انه يريد شريط لاغان تعجبه حتى يضحك، ولذا سماه شريط نكات.. لكن تأكدت انه يقصد شريط به مختلف النكات.. احضرته له واستمعت اليه.. ولا اريد ان اقول رأيي في نوعية النكات، ولكن شغلتني الظاهرة في حد ذاتها.. واستدعت الى ذهني موضوعاً كبيراً وهو وظيفة النكتة في حد ذاتها. ٭ اصداء الواقع تتداخل وتتصادم حد التناقض في كثير من الاحيان، لأنها صدى لواقع كاد يفقد الملامح الثابتة.. والإنسان يحزن ويأسى ويضحك في آن واحد، ويتخذ من الالم والمعاناة مادة للسخرية والتندر. وتأتي النكتة لاذعة ومريرة وباسمة في نفس الوقت. ٭ الناس في السودان عموماً لم يعرف عنهم انهم «شعب نكتة» كما عرف عن بعض الشعوب.. بل انهم يضحكون بحساب ويتحاشون السخرية، ولا يعرفون النكتة ولا يتعاطونها ولا يحفلون بها.. وتوجد مقولات كثيرة تدل على ذلك، مثل «الضحك بلا سبب قلة أدب» أو فلان أو فلانة ما عنده شغلة يضحك زي نار القصب.. والأب والرئيس في مكان العمل أو القائد أو الشيخ، يحرص على عدم الضحك حتى لا تهتز شخصيته أمام أولاده أو مرؤوسيه أو جيرانه. ٭ ولكن الشعب السوداني أخذ في تعاطي النكتة حتى اصبحت فقرة ثابتة في الاحتفالات والتجمعات، وحتى في الجلسات العابرة، بل أصبحت لها اشرطة تُباع جنباً الى جنب مع الاغاني. ٭ موضوع النكتة والسخرية شكل وقفة دراسة عند الكثيرين من علماء الاجتماع وعلماء النفس والسياسة والادباء والفلاسفة. يقول العقاد: النكتة السريعة تضحكنا لأنها تفاجئ التفكير بحالة غير مرتقبة، وتسوق النتيجة في طريقها غير المألوف. ٭ وهناك رأي يقول إن المصريين يطلقون النكات والعبارات الساخرة بسخاء إذا مرت بهم ضائقة، والنكتة والقفشة سلاحهم في مواجهة الاحزان والهموم. ٭ ادرك بعض السياسيين خطورة النكتة باعتبارها تعبيرا عن سخرية الشعب من القرارات والممارسات التي يراها معادية لمصلحته.. يُقال إن الزعيم جمال عبد الناصر اهتم بنوعية النكات المنتشرة في مصر بعد النكسة عام 7691م، وكان يطلب تقريراً أسبوعياً عنها ليعرف تأثير الهزيمة على نفسية الشعب. ٭ وقال كامل الشناوي: «النكتة هي السلاح السري الفتاك الذي استخدمه المصريون في محاربة الغزاة والمحتلين، وكانت النكتة هي الفدائي الجسور الذي استطاع أن يتسلل إلى قصور الحكام وحصون الطغاة، فاقضى مضاجعهم وملأ صدورهم بالرعب والقلق. ٭ والنكتة قد تكون اجتماعية أو سياسية، وفي فترات بعينها قد تسود الاجتماعية أو أحياناً تسود السياسية.. يقال إن احدهم من دول الجوار سمع بأن الشعب السوداني بدأ في تعاطي النكتة السياسية والاجتماعية بشكل واضح ومكثف، فعلق قائلاً: «يبدو أن الجماعة تعبوا» وبرواية أخرى «جاعوا» يقصد السودانيين. ٭ تساءلت هل النكتة علاج نفسي يبدعها الحس الجماعي عندما تحاصره التفاصيل الكئيبة في الحياة اليومية؟ وبالنكتة يحاول القضاء على غبار تلك التفاصيل، وتجعله يتلاشى كذرات التراب.. فالتراب يخنق الصدر ويقتل الأمل، وتفاصيل معاناة الحياة أكثر إيلاماً من ذرات التراب. ٭ ومع كثرة النكات الساخرة، قلت في نفسي بالفعل أننا دخلنا دائرة التعبير بالنكتة وشرُّ البلية ما يُضحك.