محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    سلطان دار مساليت: إرادة الشعب السوداني وقوة الله نسفت مخطط إعلان دولة دارفور من باريس    نقاشات السياسيين كلها على خلفية (إقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً)    قطر.. الداخلية توضح 5 شروط لاستقدام عائلات المقيمين للزيارة    إيران : ليس هناك أي خطط للرد على هجوم أصفهان    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    هل رضيت؟    الخال والسيرة الهلالية!    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    منى أبوزيد: هناك فرق.. من يجرؤ على الكلام..!    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    الإمارات العربية تتبرأ من دعم مليشيا الدعم السريع    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    ضبط فتاة تروج للأعمال المنافية للآداب عبر أحد التطبيقات الإلكترونية    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    بمشاركة أمريكا والسعودية وتركيا .. الإمارات تعلن انطلاق التمرين الجوي المشترك متعدد الجنسيات "علم الصحراء 9" لعام 2024    تراجع أم دورة زمن طبيعية؟    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    إجتماع ناجح للأمانة العامة لاتحاد كرة القدم مع لجنة المدربين والإدارة الفنية    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    إيران وإسرائيل.. من ربح ومن خسر؟    شاهد.. الفنانة مروة الدولية تطرح أغنيتها الجديدة في يوم عقد قرانها تغني فيها لزوجها سعادة الضابط وتتغزل فيه: (زول رسمي جنتل عديل يغطيه الله يا ناس منه العيون يبعدها)    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    الأهلي يوقف الهزائم المصرية في معقل مازيمبي    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد سعيد محمدالحسن.. حالة استثنائية في المسيرة المهنية
المهنة صحفي سوداني
نشر في الصحافة يوم 11 - 02 - 2011

كتاب «المهنة صحفي سوداني» احد اهم المراجع في تاريخ الصحافة السودانية. والكتاب يكفيك عنوانه المتفرد وغلافه الانيق ومضمونه الوثائقي الشيق والحافل بالكثير من الاسرار والتجارب. الكتاب الذي قدم له الاستاذ الكبير محجوب محمد صالح والدكتور اسماعيل حاج موسى والدكتور فريد عمر مدني، جاء عنوانه ردا على سؤال ظل يلاحق صاحبه على مدى سنوات واينما يكون في سفر او في مطار ما مهنتك؟ فيكون الرد بالعربية او الانجليزية والفرنسية «صحفي سوداني» نحاول في هذه المساحة المرور على بعض سطور الكتاب القيم الذي بدأ بتوقيع مهم لصاحبه جاء فيه:
اظن اني امثل حالة استثنائية في المسيرة المهنية واذا التحقت بها في عمر مبكر وتعاملت مع عمالقة كبار في صحف كبيرة ورئيسة،، وتعلمت التقاليد والقيم والمثل الرفيعة ونلت تدريبا متقدما من خلال عملي كمراسل لوكالة انباء عالمية AFP على مدى سنوات وطفت عواصم اوروبا وكبريات صحفها ووكالاتها ونلت نصيبي من المصاعب والضغوط بفعل التحولات والانقلابات العسكرية، وحافظت على استقلاليتي ومهنيتي وارث الاستقامة والقدوة الحسنة وتوطدت الصلات الطيبة مع الجميع وحظيت بالقبول والرضا وذلك فضل من رب العالمين واسأله تعالى دوام الفضل والتوفيق.
البداية في الايام
الحديث عن «الايام» ومدرستها المهنية المتميزة والمتقدمة، والتي غيرت مسار حياتي ودفعت بخطواتي نحو شارع الصحافة وجعلت المهنة... صحفي.. ولا شيء سواها، بعدها، ولا شيء يوازيها، بحاجة الى مقدمة ضرورية قبل تناول اجواء العمل، وتجربة تعاملي مع عمالقتها الكبار الاساتذة بشير محمد سعيد «رحمه الله» ومحجوب محمد صالح ومحجوب عثمان اطال الله عمريهما ومتعهما بالصحفة والعافية.
مراسل «الايام» شندي
مارست الكتابة مبكرا جدا، وبدأت بالكتابة لصحيفة الايام التي ظهرت كعمل صحفي جريء، شكلا ومضمونا، وخبرا ومقالا وتحقيقا، اذ كنت انقل اليها اخبار شندي وقضاياها واهتماماتها خلال تلك الفترة وكانت هذه الاخبار مهمة بدليل نشر بعضها في الصفحة الاولى للايام من مراسلها: الكتيابي الصغير، نافست انذاك مراسل الرأي العام، العم ادوارد سمعان، خالد محمد خالد «السودان الجديد» واثارت هذه الرسائل اهتمام اهل شندي لانها مست قضايا تعنيهم ولان «الايام» بمهارتها المهنية، وضعت لها عناوين لافتة وبارزة، ولكن احدا لم يعرف على وجه التعيين من وراء هذه الرسائل، وعندما تسلمت اول بطاقة صحفية «كارنيه صحفي» كمراسل ل «الايام» بشندي، وقد وقعه الاستاذ محجوب محمد صالح وفي تلك السن المبكرة من العمر، لقد كان لها فعل السحر في نفسي، وشكلت الضوء الاخضر الذي اضاء طريقا عرفت اني سأسلكه لا محالة وان قدري قد تحدد في اتجاه العمل الصحفي وظللت لفترة طويلة محتفظا بهذه البطاقة ومعتزا بها وحريصا عليها، ولكنها مع الاسف اختفت وسط الاكوام الهائلة من الورق خاصة لدى الرحيل من المنزل الكبير بالمقرن الى المنزل الصغير بالرياض.
أجواء الرهبة
وعندما التحقت بصحيفة الايام انتباتني مشاعر من الخوف والقلق، مردها الى وجود شخصيات واسماء لها وزن وخبرة ودراية مهنية عالية، وجئت الى مكاتبها في الصباح المبكر على عادة اهل الاقاليم، وعرفت ان الاساتذة يأتون عادة نحو العاشرة صباحا، وعندما اقتربت العاشرة، بدأ الاساتذة الكبار في الحضور: الاستاذ بشير محمد سعيد، ثم محجوب محمد صالح ثم محجوب عثمان، الاستاذ بشير في مكتب، والاستاذان المحجوبان معا في مكتب آخر اما المكتب الذي طلب مني الاستاذ بشير العمل فيه، فقد ضم الاستاذ مصطفى امين سكرتير التحرير، والاستاذ عثمان علي نور والاستاذ يحيى العوض وفي مكتب آخر الاستاذ رشيد بحيري، بالمورننج نيوز ويرأس تحريرها الاستاذ محجوب محمد صالح. اما مكتب الادارة، السيد امين محمد سعيد والعم فهمي فهو مجاورة للتحرير.
واستدعاني الاستاذ بشير بتوجيهه لي بالعمل في قسم الاخبار بإشراف الاستاذ مصطفى امين سكرتير التحرير، ونقل لي كلمات طيبة توحي بالثقة بحسبان ان رسائلي واخباري من مدينة شندي تميزت بالصحة والدقة ولذلك فلا خشية من الوقوع في خطأ او لبس، ثم سلمني مفكرة لاسجل فيها ارقام الهواتف، ولاضع برنامج الاتصالات بمصادر الاخبار، وان ابدأ يومي دائما بمطالعة الصحف ومتابعة اي خبر لافت، وايضا الاطلاع على «المفكرة الرئيسية» وهي اكبر حجما حيث توجد توجيهات يومية من قيادة التحرير للمحررين، واحيانا للقيام بمهام محددة، كلقاء مدير مصلحة معينة او السفر لمدينة لتغطية حدث وقع فيها وغير ذلك من مقتضيات العمل التحريري.
كان احساسي لحظتها واثناء استماعي لتوجيهاته، وتركيزي على الفهم والاستيعاب بينما اعيني تدور متفحصة ما حولي، انني في مقر اشبه بمقر دولة، وليس مكاتب صحفية، كان الدقة والنظام والانضباط غالبين على ما عداهما، وكذلك سادت الهيبة والرهبة.
اول مهمة صحفية
وما كدت استقر، واهدأ واظهر نشاطي في متابعة الاخبار وملاحقتها حتى استدعاني الاستاذ بشير لتكليفي بتغطية محاكمة البكباشي علي حامد وزملائه الضباط والاستاذ الرشيد الطاهر المحامي لمحاولتهم الانقلاب على نظام نوفمبر برئاسة الفريق ابراهيم عبود، ولا اخفي ان القلق قد ساورني بشدة فإن قيادة التحرير تتعامل معي وكأنني صحفي متمرس او له خبرة مع انني ناشئ، سنا وخبرة، واتجهت الى مقر المحكمة العسكرية على شاطيء النيل بجوار سينما النيل الازرق، وبدأت اجراءات المحاكمة في الساعة التاسعة صباحا تماما، واحضر من وجهت اليهم الاتهامات، وجاء قانونيون كأصدقاء لهم، الاستاذ محمد احمد محجوب، والاستاذ احمد سليمان واخرون، وكان علي التركيز لاداء المهمة الكبيرة، اسماء رئيس واعضاء المحكمة العسكرية وقاضي المحكمة العليا جلال علي لطفي، والعميد مزمل غندور ممثل الاتهام ثم اسجل حيثيات الاتهام والاسئلة والاجوبة وفي ذلك الوقت لم نكن نعرف مسألة التسجيل الصوتي «المسجل»، التسجيل الفوري، كان عبر الكتابة بسرعة وبما يشبه الشفرة لتسهيل نقل الوقائع بالكامل، وكان وجود صحفيين مخضرمين من صحيفتي الرأي العام، والسودان الجديد كافيا لشحذ همتي وحماستي لتكون تغطيتي كاملة ووافية ودقيقة، ورفعت الجلسة في الساعة الرابعة عصرا ووجدت سيارة «الايام» في انتظاري حيث اتجهت الى مقرها في عمارة ابو العلا وسط الخرطوم، ورغم اني نقلت ما دار في المحكمة جيدا بما فيها تسجيل ملاحظات عن المتهمين العسكريين والمدنيين، وكان انذاك الاستاذ رشيد الطاهر الذي وجد لديه البيان رقم واحد وهو متهم في القضية هادئا، وقد انشغل اثناء المداولات بالمحكمة في الرسم على الورق، وبعث لي بإحداها اثناء الجلسة لكن في الواقع كنت قلقا على صياغة المدخل في البداية والعرض والتلخيص، ووجدت الاستاذ بشير محمد سعيد في انتظاري، ربما لانه قدر مشقة المهمة التي كلفت بها، وقد سألني كيف بدأت الجلسة، وكيف كانت اجراءاتها؟ وماذا جاء في لائحة الاتهام؟ بماذا رد المتهمون؟ وماذا قال اصدقاء المتهمين؟ وماذا قال الاتهام العسكري؟ وكم من الزمن استمرت مداولات الجلسة الاولى ومتى رفعت؟ وما هو اهم ما لفت انتباهك في المحاكمة، وكنت ارد بسهولة وعفوية وعلى اساس ان الاستاذ بشير اراد ان يسمع مني ما جرى في المحكمة قبل ان ابدأ في الكتابة عنها.
وفوجئت انه على ضوء اجوبتي كتب ملخصها للصفحة الاولى وقال لي ا لآن اكتب ما جرى تداوله في المحكمة حسبما تابعت فيها، وانزاح الهم والقلق، واصبحت المهمة سهلة، فسارعت الى الكتابة، وظننت ان الاستاذ بشير قد ذهب الى منزله، فقد كانت الساعة نحو السادسة مساء، لكني وجدته في انتظاري وقال لي لا بد ا نك الآن جائع، واتجهت معه الى منزله بالخرطوم وتناولت معه «الغداء العشاء» ثم عدنا الى مكاتب الايام مرة اخرى.
كانت هذه التجربة المهنية الاولى لتغطية محاكمة عسكرية بذلك المستوى شديدة العمق في ذاكرتي، وعندما استرجعها الان اجد ان «الايام» دفعت بي عن قصد وهدف لمواجهة التحدي المهني وضرورة اجتيازه رغم ان الصحف الرئيسية الاخرى اعتادت على ارسال البارزين من ذوي الخبرة في هذا المجال.
وبعدها لم يعد الاستاذ بشير او اي من الاستاذين المحجوبين بحاجة الى مراجعتي بالنسبة لتغطية المحاكمة فقد كنت ادفع بأوراقها الى المطبعة مباشرة.
وما كادت المحاكمة تنتهي، حتى ابلغني الاستاذ محجوب محمد صالح بمهمة اخرى لا تقل بالنسبة لي خطورة او اهمية من تغطية المحاكمة العسكرية لمدبري المحاولة الانقلابية ضد حكومة الفريق ابراهيم عبود.
المهمة الثانية
كانت المهمة الثانية، شديدة الاثارة، شديدة الاهمية، فالمطلوب مني تغطية زيارة الفريق ابراهيم عبود رئيس المجلس الاعلى لمدينة حلفا، وذلك بعد توقيع اتفاقية مياه النيل في نوفمبر 1959م والتي اقرت قيام السد العالي وترحيل اهالي منطقة حلفا الى منطقة اخرى لان المياه ستغطيها تماما نتيجة للسد العالي وحددت نحو ثلاث سنوات لتنفيذ هذه الهجرة الصعبة، وكيفية استقبال اهل حلفا له وماذا سيقول لهم لضمان قبولهم واقتناعهم بقرار التهجير من وطن الآباء والجدود، واعطتني ادارة الايام مبلغا كبيرا بحساب تلك الفترة وذلك لتغطية نفقات الاقامة والمحادثات التليفونية او البرقيات، ولم يشأ اي من الاساتذة الكبار تقديم اي نصح او ملاحظات او مشورة بما ينبغي اعطاؤه الاسبقية في التغطية ربما انهم ارادوا استكشاف قدراتي او طريقة التغطية. وفي القطار الخاص المتجه من الخرطوم الى حلفا، وجدت الزملاء المخضرمين الاساتذة عوض برير «الرأي العام» محمد الحسن احمد وجعفر حامد البشير «الصراحة» جعفر عبد الرحمن «السودان الجديد» محمد العبيد «الاذاعة» نعمان النور «الاستعلامات» ولدى وصولي الى محطة حلفا حيث استقبلنا كبار اهل المدينة الى جانب مفتش المركز، او مسؤولها الاداري الاول حسن دفع الله وكان ترحيبهم وحفاوتهم بحضورنا حارا وصادقا، ونقلنا الى فندق النيل، فندق حلفا الشهير وهو مدانٍ في الشهرة والمكانة والجمال للفندق الكبير «الجراند اوتيل» بالخرطوم، وبعد تناول المرطبات نقلنا للباخرة المطلة مباشرة على الفندق وبمجرد وضع حقيبتي الصغيرة طلبت من السيد حسن دفع الله وهو شخصية لافتة بحيويته وخبرته الادارية القيام بجولة في شوارع المدينة التي اسرتني تماما منذ لحظة وصولي اليها، وهي مدينة بالغة الروعة والجمال والنظافة ونخيلها وحدائقها هذا غير عبق التاريخ والحضارة التي تحف بها من كل جانب.
وبغير اطالة، وصل الفريق ابراهيم عبود يرافقه الاميرالاي احمد مجذوب البحاري وزير الداخلية والاميرالاي مقبول الامين وزير الري والدكتور احمد علي وزير الصحة بالطائرة، وكان استقبال اهل حلفا للفريق عبود حاشدا وحارا على عكس التوقعات باستقبال فاتر لانه جاء لينقل اليهم قرار الحكومة بتهجيرهم من منطقتهم الى منطقة اخرى، وقد تأثر الفريق عبود لاستقبال مواطني حلفا وتعهد في احاديثه اليهم بأن الحكومة ستنقلهم الى المكان الذي يختارونه، وادلى الفريق ابراهيم عبود بحديث ل «الايام» بأن الحكومة ستعمل على توفير كل متطلبات وتسهيلات الحياة المريحة في الوطن الجديد وانها ستتولى نقل كل ما يخصهم، وان ما ستقدمه الحكومة لابد ان يوازي التضحية الكبرى من جانب سكان حلفا، وظللت انقل هذه المشاهد والتصريحات عبر التليفون وعبر البرقيات ل «الايام»، وشملت التغطية الاكتشافات الاثرية المهمة التي قامت بها بعثات التنقيب عن الآثار في منطقة حلفا وبوجه خاص اكتشاف معبد بوهين الشهير، ووصف دقيق للمعبد واعمدته وتصريحات لمكتشفه الاثري وذلك لدى تفقد الفريق عبود للموقع وفي هذه الزيارة تعرفت على ضابط الآثار الشاب نجم الدين محمد شريف فيما بعد العالم ومدير عام الآثار السودانية الذي احاطني بالجوانب الاثرية والتاريخية للمنطقة وسلمني صورة صممها البروفيسور امري لمعبد بوهين والذي نقلت اعمدته فيما بعد للخرطوم.
استغرقت الرحلة اسبوعا كاملا، لان الفريق عبود حرص على زيارة قرى منطقة حلفا، وكان دائما يجدني الى جواره ويحادثني بعفوية وابوة كريمة، ولدى وصولي الى محطة سكة الحديد بالخرطوم فوجئت بوجود الاستاذ بشير محمد سعيد وبجانبه الاستاذ مصطفى امين فقد جاءا لاستقبالي، وعبر الاستاذ بشير عن ارتياحه للتغطية الصحفية التي وصفها بأنها «ممتازة» لاني سبقت بها الزملاء في الصحف الاخرى خاصة وان تصريحات الفريق ابراهيم عبود قد انفردت بها «الايام»، ونقلني بسيارة الى منزلي انذاك بام درمان وقد عزوت هذه الاشادة لامرين وهي ان الايام بمهنيتها المتقدمة تعرف كيف تعكس قبولها للعمل الناجح، وبالنسبة للاستاذ بشير محمد سعيد فربما اراد التشجيع الشخصي اذ كنت بحاجة اليه في تلك السن المبكرة، كما انه وهو مخبر من طراز اول قد اغبطته تغطية حلفا كان هذا الاستقبال على محطة السكة الحديد شديد التأثير على نفسي.
مكافأة مالية مجزية
ولأن الفريق ابراهيم عبود قرر قبل مغادرته حلفا بالطائرة للخرطوم تغطيته اقامة الصحفيين في فندق حلفا، فقد وجدت اني في الواقع لم اصرف شيئا من المال الذي قدمته لي ادارة الايام، ولذلك ولدى استئنافي عملي في صباح اليوم التالي لوصولي اعدت المبلغ للعم فهمي امين الخزينة، وابلغته بأن الضيافة تولتها الحكومة، اما اجر المحادثات والبرقيات فقد كنت ابعث بها من مكتب مفتش المركز حيث كان يمنح الاولوية في الاتصال بالخرطوم وكانت هذه المبادرة كرما منه ومعاونة لانجاح مهمتي الصحفية. ولكني فوجئت في آخر النهار ان السيد امين محمد سعيد يعيد لي المبلغ ومعه مكافأة مالية اخرى، وقال انها توجيهات قيادة تحرير الجريدة وتقبلتها شاكرا وسعيدا.
العمالقة الثلاثة
كانت ملاحظتي تجاه عملاقة الايام الثلاثة، بشير محمد سعيد ومحجوب محمد صالح ومحجوب عثمان فهم اولاد بل لكل واحد منهم شخصية آسرة، وقوية انهم يمثلون ثالوثا عظيما، وكانوا بحق فرسان المهنة بلا منازع، فالاستاذ بشير كاتب مقال جيد وجرئ ومخبر من طراز اول، والاستاذ محجوب محمد صالح كان الصحفي الشامل الذي يهتم بالخبر والتحقيق الصحفي والتحليل السياسي والتصميم ووضع العناوين اللافتة، واليه ادين بالفضل لانه اول من احاطني بأهمية التحقيق الصحفي، لانه يحتاج لجمع المعلومات ومن ثم الاتصال بالجهات المختصة لاستفسارها ومعرفة رأي اهل الخبرة، او الطرف الآخر في مادة التحقيق، واول تحقيق كتبته للايام عن شكوى ترددت آنذاك بشأن تأخر القضايا او اجراءاتها مما يؤدي الى الاضرار بأطرافها، وكان ممن تحدثت اليهم الاستاذ احمد سليمان الذي امن على صحة هذه الشكوى، واوحى في حديثه بأن بعض المحامين الجدد ربما كانوا مبعث الشكوى، وقد تصدى بالرد عليه الاستاذ شوقي ملاسي وبعض زملائه الشباب بقولهم انهم الاكثر حرصا على متابعة القضايا ليس لحرصهم على العدالة فحسب وانما لكسب ثقة عملائهم.
محرر السهرة
اما الاستاذ محجوب عثمان فإن الجانب السياسي غالب لديه على الجانب المهني، وقد سجن في مظاهرات ضد الجمعية التشريعية وبمقدوره صياغة الخبر السياسي بمهارة بالغة، وكتابة افتتاحية الايام لتبيان موقف الايام مما احتواه ذلك الخبر.
اذكر من ذلك انه تلقى مني خبرا عن ليلة سياسية اقيمت في شندي، حيث هاجم فيها رئيس حزب الشعب الديمقراطي ووزير الداخلية آنذاك الشيخ علي عبد الرحمن، ورئيس الحزب الوطني الاتحادي اسماعيل الازهري وذكر انه ينفذ ما يمليه عليه يحيى الفضلي واستخدم وصفا غير كريم، فأبرز الاستاذ محجوب هذا الحديث في صفحة الايام الاولى، وكتب الافتتاحية التي انتقدت وزير الداخلية لانه بهجومه الشخصي على رئيس اول حكومة وطنية ولزعيم الحزب المعارض اوشك على احداث الفتنة والاضطراب مع ان مسؤوليته الحفاظ على الامن والسلام في البلاد.
ولقد تلقيت منه درسا مهما بالنسبة لمسؤوليات محرر السهرة، فليست مهمته الرد على المحادثات الهاتفية او متابعة الجديد من الانباء بعد اجازة الصفحة الاولى، بعناوينها وتصميها الاخير وانما مهمته ان يكون دقيقا في الملاحظة فلا بد ان يتأكد ان العناوين تتطابق مع المادة الخاصة بها، واذا جاء خبر جديد مهم فلابد من اعمال الحس المهني ليكون في الموضع الصحيح، وحتى رقم العدد واليوم والتاريخ لا بد من الاستيثاق من صحتها وعدم الاكتفاء بمراجعة التصحيح، فمحرر السهرة هو رئيس التحرير، فإذا لم يكن على هذا المستوى فلا ينبغي ان توكل اليه اية مهمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.