عبد الله حمدوك.. متلازمة الفشل والعمالة ..!!    بريطانيا .. (سيدى بى سيدو)    كريستيانو يقود النصر لمواجهة الهلال في نهائي الكأس    المربخ يتعادل في أولى تجاربه الإعدادية بالاسماعيلية    شهود عيان يؤكدون عبور مئات السيارات للعاصمة أنجمينا قادمة من الكاميرون ومتجهة نحو غرب دارفور – فيديو    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    دورتموند يسقط باريس بهدف فولكروج.. ويؤجل الحسم لحديقة الأمراء    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    واشنطن: دول في المنطقة تحاول صب الزيت على النار في السودان    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    شاهد بالصور.. المودل والممثلة السودانية الحسناء هديل إسماعيل تشعل مواقع التواصل بإطلالة مثيرة بأزياء قوات العمل الخاص    شاهد بالصورة والفيديو.. نجم "التيك توك" السوداني وأحد مناصري قوات الدعم السريع نادر الهلباوي يخطف الأضواء بمقطع مثير مع حسناء "هندية" فائقة الجمال    شاهد بالفيديو.. الناشط السوداني الشهير "الشكري": (كنت بحب واحدة قريبتنا تشبه لوشي لمن كانت سمحة لكن شميتها وكرهتها بسبب هذا الموقف)    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    طبيب مصري يحسم الجدل ويكشف السبب الحقيقي لوفاة الرئيس المخلوع محمد مرسي    "الجنائية الدولية" و"العدل الدولية".. ما الفرق بين المحكمتين؟    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فلوران لم يخلق من فسيخ النهضة شربات    رئيس نادي المريخ : وقوفنا خلف القوات المسلحة وقائدها أمر طبيعي وواجب وطني    لأول مرة منذ 10 أعوام.. اجتماع لجنة التعاون الاقتصادي بين الإمارات وإيران    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    دولة إفريقية تصدر "أحدث عملة في العالم"    والي الخرطوم يدشن استئناف البنك الزراعي    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    الحراك الطلابي الأمريكي    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثقافية
نشر في الصحافة يوم 18 - 02 - 2011

في الجلسة الافتتاحية للاحتفاء بجائزة الطيب صالح العالمية( زين)
عروة :الطيب صالح فخر لنا والجائزة ستسفر عن ادباء جدد
اعداد/ وفاء طه
شهدت قاعة الصداقة صباح أمس الخميس افتتاح التظاهرة الثقافية الكبرى التي نظمتها الشركة السودانية للهاتف السيار لجائزة الطيب صالح للابداع الكتابي والتي بدأ التحضير لها العام الماضي 2010 وقدكان الاحتفال وسط حضور مميز من الكتاب والمبدعين وقد شرف الاحتفال السيد حمد بن عزيز الكواري وزير الثقافة والفنون والتراث القطري وبمشاركة من عدد من المبدعين العرب ..قدم الجلسة الافتتاحية الشاعر خالد فتح الرحمن ، قدم كلمة (زين) الفريق الفاتح عروةالذي بدأ حديثه بتقديم الشكر لكل الحضور قائلاً:
نحمد الله أن جاء أخراج اليوم الأول جميلاً كعالم ( زين) الذي يمثل المظهر الجميل الذي تتبناه ( زين) مضيفاً أن اسم الطيب فخر كبير لنا وبدأنا الدور الأول بنجاح يليق بمكانته وقد استطاع الطيب ببساطته وتواضعه أن ينقل الأدب والثقافة السودانية الى مصاف العالمية ونتمنى أن تسفر الأوراق القادمة عن أدباء جدد يسهموا في دفع الحركة الثقافية والأدبية سودانيا وعالمياً .
كما تحدث البروفسير علي شمو رئيس مجلس الأمناء قائلاً بدأ حديثه بترحيب خاص لضيف الشرف الكواري وزير الثقافة لدولة قطر والتي كان لها ? على حد تعبيره- معزة خاصة في ضمير الطيب صالح ، ويمتد الترحيب بالذين شرفونا من جميع أنحاء العالم .. وشقيقه الاستاذ بشير محمد صالح مضيفاً أن الطيب صالح كان رحيله حدثاً عالمياً اهتزت له كل المحافل وساحات الفكر والأدب من كل أنحاء العالم .. قرأ الناس أدبه المميز واسلوبه الرفيع وقد أفلح البعض في ترجمة أعماله الى أكثر من 42 لغة .. لقد ظل الشعب مهتماً ومعنياً بمتابعة الأنشطة التي أقيمت تخليداً لذكراه ومتابع للدراسات التي أجريت عن انتاجه الرفيع ,. الأستاذ بشير محمد صالح قدم كلمة أسرة الراحل معبرا عن شكره لشركة زين التي نظمت الجائزة وأضاف أ ن الطيب صالح كان الشقيق الرفيق والعصا التي يتوكأ عليها ويهش بها عند الأزمات وبرحيله فقد كل ذلك لأنه من قلة هذا الزمان .. الطيب صالح كان محباً محبوباً يألف ويؤلف ويتخذ الوسطية منهجاً لحياته .. كان ديدنه البساطة وكان رجلاً موسوعياً ذو ثقافة عالية وفي ختام حديه كررشكره لشركة زين وقدم مقترحاً للشركة لفتح معهد لتدريب الشباب السوداني في مجال التقنيات .
سعادة وزير ثقافة دولة قطر حمد بن عزيز الكواري بدأ حديثه بقوله من قيم الحياة الجميلة الوفاء وهذه المناسبة من بلد الوفاء لمن يستحق الوفاء .. ومن باب الوفاء أن نشارك في هذه المناسبة وقد قبلنا الدعوة ببالغ السرور لخصوصية العلاقة السودانية القطرية ، وقد كان لنا على المستوى الثقافي وشائج عميقة توشجت بحضور الرموز السودانية وبالدور الذي لعبته الجالية السودانية بقطر .. يشرفنا أن كان الطيب بيننا منهلاً للعطاء من مواقع مختلفة وتربطني به علاقات أخوة وصداقة واتصال دائم في حياته أهداني نخلة على الجدول وكنت أقول دائما نحن نعتز بأنه قطري تقلد أعلى المناصب في الاعلام وهو من الرموز التي أعلت شأن الرواية العربية مما جعل الأدباء يطلقون عليه عبقري الرواية العربية وقد كان رمزاً للمبدع العربي مما يعزز خصوصية مكانته .
وختام الكلمات قدمها الأستاذ عبد الباسط عبد الماجد بالانابة عن ممثل رئاسة الجمهوري مصطفي عثمان اسماعيل، جاء في كلمته نحن من بلد تنبت النخل ومن النخل تنبت القامات السامقة ، نحن من بلد يكثر فيه الطيبون والصالحين ولكن من بين هؤلاء الطيبين الصالحين استطاع أن يكون المعرف بالألف والام أن يلغي واو العطف ويجمع بين الصلاح والتصالح وذلك هو الطيب صالح .. نحن في موقف تختلط فيه مشاعر الاحساس بالوجود والغياب فقد كان وجوده في القلوب والضمائر والذاكرة وهو الآن في فراديس العلابين الشهداء والصدقين باذن الله .. نحن نحتفل برجل ارتوى من النيل وعبر عن رؤاه بمفردات ثقافته المحلية .. فقد كان أنموذجاً للكاتب المتصالح مع نفسه والآخرين ليحتل مكاناً متفرداً في العالم .
وقد عطر سماء الاحتفاء كورال الأحفاد بقصيدة للشاعر خالد فتح الرحمن وبعض الالحان الشجية
النيل والبنية العميقة للمكان الروائي عند الطيب صالح
النيل والبنية العميقة للمكان الروائي هي الورقة التي قدمها د. احمد درويش .
تحدث قائلا : المكان الأبرز في كتابات الطيب صالح هو النيل الذي يشكل ( البنية العميقة) في معظم كتاباته ويضيف إليها ( البنية السطحية ) أو الشاملة في كثير من هذه الكتابات وتتشكل وفقا لدرجة الارتباط به ، معظم مراحل نمو الشخصيات ، وتكون الأحداث .
وإذا قلنا إن النيل يمثل المكان الرئيسي عند الطيب صالح فينبغي أن نضيف أنه لا يحل في العمل الروائي ، باعتباره ( ديكورا تزينيا ) تتألق به جوانب اللوحة ، كما أنه لا يحل في العمل باعتبارة مرآة تنعكس عليها مشاعر الأبطال ومسيرة الأحداث ، فيتعكر عندما تتعكر ويصفو عندما تصفو ، ولا يحل كذلك باعتباره قطعة شطرنج ملساء محكمة الصنع ، جيدة البريق يحركها الراوي كما يشاء ووقتما يشاء .
ولكن النيل يحل في العمل باعتباره شريكا رئيسيا في الأحداث يتم الحوار معه ويتم الإصغاء إليه ويتم رصده بكل ألوان الحواس ويتم استيعابه والرضى عنه حينا ورفضه والغضب منه أحيانا أخرى .ويضيف درويش ومنذ أول قصة قصيرة نشرها الطيب صالح سنة 1953 وهي قصة ( نخلة على الجدول ) نرى النيل يطل ولو على استحياء في بدايات القصة وفي مراحل التحول الرئيسي لأحداثها فها هي نخلة شيخ محجوب « ذات البنات الخمس وقد قامت وسطها النخلة الأم ممشوقة متغطرسة تتلاعب بغدائرها النسمات الباردة التي هبت من الشمال تحمل قطرات من مياه النيل « وها هي لحظة التحول الرئيسي في مجرى الأحداث من سعة الرزق إلى الضيق ترتبط أيضا بالنيل « لقد مات الزرع ويبس الضرع وعم القحط فأغرق الرخاء وكان النيل يفيض بين ضفتيه زاخرا موارا يسسقي الأرض ويخرج ما في باطنها من الخير فما عاد يفيض إلا بحساب ومقدار «.
وبدءا من رواية (عرس الزين ) 1964 و ( موسم الهجرة للشمال )1966 و( بندر شاه ) بجزئيها ( ضو البيت )1972 و ( مريود ) 1973 سوف يطبع النيل صورته الخالدة في أعمال الطيب صالح انطلاقا من قرية ود حامد التي أصبحت واحدة من أشهر القرى على خريطة الأدب العربي والعالمي سواء من خلال ورود اسمها في عناوين بعض أعمال الطيب صالح مثل ( دومة ود حامد ) أو من خلال الوصف التفصيلي لموقعها على النيل ولشخصياتها المألوفة التي أصبحت تنتقل من عمل إلى عمل أو لأحداثها التي يرتبط معظمها بالنيل
وإذا كانت رواية مثل موسم الهجرة إلى الشمال تصنف عادة عند النقاد بأنها رواية تنتمي مكانيا إلى لندن حيث تدور حوالي نصف أحداثها ، فإن الذي يمعن في المكان الروائي فيها يدرك ، أنه رغم صحة الملاحظة السابقة ، تظل البنية العميقة للرواية ترتبط مكانيا بالنيل ،
ومع نسج خيوط الذكريات الأولى بعد العودة تقوده خطاه إلى مكانه الأثير ، أيام طفولته على شاطيء النيل « عند جذع شجرة طلح على ضفة النهر كم عدد الساعات التي قضيتها في طفولتي تحت تلك الشجرة ، أرمي الحجارة في النهر وأحلم ويشرد خيالي في الأفق البعيد ، أسمع أنين السواقي على النهر وتصايح الناس في الحقول : راحت السواقي وقامت على ضفة النيل طلمبات لضخ الماء : وأنظر إلى النهر بدأ ماؤه يربد بالطمي لابد أن المطر هطل في هضاب الحبشة : أسمع طائرا يغرد أو كلبا ينبح أو صوت فأسا في الحطب وأحس بالاستقرار ، أحس أنني مهم وأنني مستمر ومتكامل «
ويشير ايضاً د. درويش الى إن قمة تطور الحدث في موسم الهجرة إلى الشمال فيقول:- لا نقول فقط تجري على شاطئ النيل أو بمرأى منه ، وإنما تجري بيد النيل ذاته في شكل قوة عاتية عاصفة تضع نهاية للغز شخصية مصطفى سعيد المحيرة والتي اكتشف الراوي منها ما يكتشف من قمة جبل الثلج العائمة وسط مناخ لحظة التشوق لكشف المزيد ، جاءت موجة فيضان مدمر استثنائي « كان النيل قد فاض ذلك العام أحد فيضانته تلك التي تحدث كل عشرين أو ثلاثين سنة وتصبح ظاهرة يحدث بها الآباء أبناءهم وغمر الماء أغلب الأرض الممتدة بين الشاطئ وطرف الصحراء حيث تقوم البيوت ، وبقيت الحقول كجزيرة وسط الماء وكان الرجال ينتقلون بين البيوت والحقول في قوارب صغيرة أو يقطعون المسافة سباحة وكان مصطفى سعيد سباحا ماهرا ..... وكان من عادته أن يعود من حقله مع مغيب الشمس ولكن زوجته انتظرت دون جدوى وانكبت البلد كلها على الشاطيء الرجال في أيديهم المصابيح وبعضهم في القوارب وظلوا يبحثون الليل كله دون جدوى ..... والجثث التي حملها الموج إلى الشاطئ هذا الأسبوع لم تكن بينها جثة مصطفى سعيد وفي النهاية أخلدوا إلى الرأي أنه لابد أن يكون قد مات غرقا وأن جثته قد استقرت في بطون التماسيح التي يغص بها الماء في تلك المنطقة «
وختم ورقته بقوله إن رواية موسم الهجرة إلى الشمال التي قد تبدوا للوهلة الأولى بعيدة نسبيا عن أطروحة هذا البحث حول ( النيل مكانا روائيا عند الطيب صالح ) تبدو وكأنها أقامت هيكلها الرئيسي وروحها المحركة على النيل حتى وإن ابتعدت عنه مكانيا في بعض فصولها الداخليةواشار الى مكاتة النيل عند شوقيمقارنة بالطيب صالح قائلاً:-
وإذا كان شوقي من قبل قد أجاد التحليق حول الصورة المثلى للنيل حين خاطبه قائلا في لوحته الشعرية الجميلة:
من أي عهد في القرى تتدفقُ
وبأي كف في المدائن تغدق
ومن السماء نزلت أم فجرت من
عليا الجنان جداول تترقرق
وبأي عين أم بأية مزنة
أم أي طوفان تفيض وتفهق
وبأي نول أنت ناسج بردة
للضفتين جديدها لا يخلق
تسقي وتطعم لا إناؤك ضائق
بالواردين ولا خوانك يَنْفُقُ
والماء تسكبه فيسبك عسجدا
والأرض تغرقها فيحيا المغرق
إذا كان شوقي قد أجاد التحليق حول النيل فإن الطيب صالح قد أجاد الإصغاء له والتقاط معطيات الرؤية والشم واللمس واستطاع وهو يعيد أبداع ما التقط أن يفلت من الصورة العامة وأن يصنع الصورة الخاصة المركبة التي لا تكاد توجد إلا عند ذلك الراصد وذلك المرصود ويكفي أن يتأمل المتلقي صورة الرائحة المركبة للفيضان وهي مزيج من أربعة عناصر هي الطلح والحطب والأرض والأسماك لكن كل عنصر منها يتشكل بدوره بإضافة عنصر أو أكثر إليه ، فالطلح يأخذ منه زهره والحطب تلتقط منه لحظة ابتلاله والأرض لا تمنح الرائحة الخاصة إلا وهي خصبة وفي لحظة ظمأ تتلقى الري ، والسمك لا يكون كذلك إلا ميتا تلقيه الأمواج على الرمال .
والصورة الصوتية التي تلتقط قدرة الماء على حمل الأصوات إلى أبعاد كبيرة صورة لا يحس مدى عمقها وصدقها وفنية التقاطها إلا الذين عاصروا فيضان النيل في عصر صفاء السماوات من ضجيج قنوات الإرسال ومكبرات الصوت وأستطيع أن أكون واحدا من هؤلاء الشهود فقد عاصرت في صبايا المبكر آخر فيضان للنيل في مصر قبل قيام السد العالي .
ولقد أحسن الطيب صالح الإصغاء إلى النيل المكان الذي استلهم منه معظم روائعه الفنية ودفعه ذلك الإصغاء والتأمل إلى أن يكتشف من أسراره ما يمر عليها الملايين الذين يعايشونه كل يوم فلا يلتفتون إليها وأن تمر هذه الأسرار عبر الحاسة الفنية المرهفة التي يتمتع بها الفنان فتكتشف مذاقها الخاص الذي يشكل مزيجا من المرسل والمتلقي ثم يعيدُ إرسالها من خلال أعمال فنية رائعة تأخذ في غالب الأحيان شكل السلاسة والبساطة التي يتمتع بها النيل ذاته ولكنها تأخذ أيضا من طبائعه العمق والثراء والمتعة والفائدة وأكاد أضيف إليها الديمومة والخلود.
إطلالة على كتابات الطيب صالح غير السردية
الاطلالة هي عنوان الورقة التي أعدها د. عبدالعزيز المقالح
والتي ذكر فيها أن النمط الكتابي غير السردي للطيب صالح اتخذ ، (وأعني به المقالات والأعمدة المنشورة في المجلات والصحف) شكلاً تعبيرياً مخالفاً للجنس الأدبي السردي المتمثل في الرواية والقصة. وهو في أغلبه صدى للواقع الإنساني، الأدبي، والاجتماعي، والسياسي، والفكري، والفني، وفي جمعها من مصادرها المختلفة ما يشكل مخزوناً ثقافياً بالغ الأهمية في منجزات هذا المبدع الكبير، وكما اختار الطيب في أعماله الإبداعية طريق الإيجاز، وأن لا يكون مكرراً أو يقول في تلك الأعمال ما سبق له قوله، أو قاله الآخرون، فقد كان ذلك هو شأنه في مقالاته وأعمدته التي كانت شيئاً مختلفاً في لغتها الرصينة القوية وفي مضمونها العميق الذي يكشف عن الجديد والمبتكر، ولعل أبرز وأهم ما امتازت به كتابات الطيب صالح خارج أعماله الإبداعية، أنها كانت من بين كتابات قليلة لكتَّاب لا يبيعون للقارئ الوهم الجميل أو يجعلونه ينخدع عن حقائق الواقع، وذلك بالنسبة له، ناتج عن ثقافة عميقة وقراءات واسعة، وقد كشف في جانب مهم من تلك الكتابات علاقته بالموروث العربي فكراً وشعراً، إضافة إلى تواصله الحميم مع الموروث الأدبي والفكري الأوروبي والإنجليزي منه خاصة، ومن هاتين الثقافتين العربية والأوروبية، تكونت ثقافة الطيب صالح الموسوعية التي مكّنته في كتاباته الإبداعية أولاً، ثم في كتاباته غير السردية ثانياً، من تزويد قارئه بما لم يكن في مقدور كاتب آخر أن يفعل، وتلك واحدة من أهم الميزات بالإضافة إلى تمكنه من معرفة ما يهم قارئه ويعلّمه، لا ما يسليه ويزجي به أوقات فراغه.
وكثيرة هي المزايا التي تتسم بها هذه الكتابات التي تصدر عن حالة من العفوية والانسياب المحكوم بفكر منظم ودقيق في اختيار ما يكتبه ويقوله، ولعل من أبرز تلك المزايا وأكثرها وضوحاً ما تعبر عنه من طرافة وجاذبية، ومن تشويق يجعل القارئ يتمنى لو طالت وأخذت حيزاً أكبر من ذلك الحيز المحدد، وهي وإن لم تكن فنية بالمفهوم الدقيق إلاَّ أنها ملتصقة بوجدان صاحبها التصاقها بأرض الواقع، وبالذات التي تستجيب إلى إملائها دون تلكؤ أو مماطلة لاسيما حين تطرح حصيلتها من التذكر والذكريات في لغة حميمة خالية من الخطابية والتنميق اللغوي، ورغم كونها خارج كتاباته السردية فهي تكاد تكون جزءاً من ذلك السرد الفني الذي أتقنه وأجاد تمثيله، كما أنها في أحايين أخرى لا تخلو من الحوار.
كما أخذ الشعر نصيب الأسد من هذه الكتابات لاسيما شعر أبي الطيب المتنبي، صديقه الأثير، أو «الأستاذ» كما كان يصفه الذي استأثر بمحبته أكثر من سائر الشعراء القدامى منهم والمعاصرين، فقد سكن وجدانه منذ مراحل الصبا، ولم تتمكن لغة شكسبير وإبداعاته ولا أساليب غيره من شعراء الغرب أن تبعده عنه أو تقلل من احتفائه به، ولعل ما أَسَرَه في المتنبي هي تلك اللغة المعبِّرة عن الكبرياء والعظمة والإباء والشمم في حضرة الممدوحين الذين كان يرى نفسه أحق بالمديح منهم واكتفى بمشاركتهم وفي أن يقاسمهم هذا المديح.
ولابد من الإشارة إلى أن الطيب صالح عندما كان يكتب مقالاته في عدد من المطبوعات العربية لم يكن يبحث عن الشهرة فقد أخذ منها ما يكفي ويزيد. كما لم يكن يبحث عن المال فلم تكن تلك المطبوعات تدفع الكثير الذي يغري بالكتابة ويجعل الكاتب يحرص على التواصل معها، وإنما كان يشعر بأنه يتنفس من خلالها، ويعبّر عن مواقفه وأرائه في الأدب والفن والمدن والناس والسياسة أحياناً، وكان الطيب في لقطاته النقدية يبدو وكأنه أستاذ جامعي من أولئك الذين يجيدون قراءة النصوص الأدبية من خلال بنيتها اللغوية قبل الانطلاق إلى مضامينها والاقتراب من معانيها، وقد تجلى ذلك أكثر في مقالاته عن المتنبي والمعري كما سنرى ذلك في النماذج التي نعرض لها لاحقاً.
أخيراً، أتساءل: هل أبعدت تلك الكتابات الدورية وشبه اليومية الطيب صالح عن مواصلة كتابة الأعمال الروائية والقصصية فقد توقف عن هذا المستوى من الإبداع منذ مال إلى كتابة المقالات ، وكأنه اكتفى بالتعبير من خلالها عن إضافة المزيد إلى عالم الكتابة الروائية والقصصية؟ وأزعم -إجابة على هذا السؤال الطويل- أنها سرقت كثيراً من وقته وأبعدته عن ممارسة فعل الإبداع ولهذا؛ فكم على المبدعين أن يحموا أنفسهم من الانسياق وراء هذا النمط اليومي من الكتابة الذي يسرق منهم لحظات الإبداع الذي كان قد وصل إليه.
وخلاصة ما تذهب إليه كتابات الطيب صالح وتسعى إلى تثبيته في الأذهان أنها تقوم على إدانة التعصب وإشاعة التسامح واحترام العقلانية والتأكيد على أهمية العلم والثقافة والفن، باعتبار هذا الثالوث أهم وسائل التحضر والانتقال بالشعوب المتخلفة إلى ميادين التمدن، والخروج من سطوة ما تبقى في العقول من عصور التزمت والتخلف التي أثقلت كاهل العرب وجعلتهم في آخر عتبة من سلم التطور الاقتصادي والصناعي. وقد قدمت الورقة قراءات لبعض مقالات الطيب صالح ضمنها مقال يتضمن إدانة صارمة للاستعمار (الأبيض) وعنصريته المقيتة، وما تعرضت له شعوب كثيرة تحت هيمنته من قهر واضطهاد وانقراض. والمقال المشار إليه يتحدث عن الاحتلال البريطاني لأصغر القارات الخمس «استراليا» وما لقيه سكانها الأصليون من إذلال وإبادة، وقد كتبه تحت عنوان (مخلوقات دمرت الحلم الجميل )
«من أعجب ما سجّله التاريخ من أقوال المستوطنين البيض في أستراليا، عبارة لرجل يدعى «سي. لوكهارت»، قالها عام 1849: «لا شيء سوف يحول دون انقراض عنصر ال «أبوروجنيز» (سكان استراليا الأصليين) الذين شاءت الإرادة الإلهية أن تسمح لهم بالاحتفاظ بالأرض ريثما يجيء عنصر أفضل منهم». هذا الرجل المغمور الذي لم ينسب له التاريخ عملاً يؤثر، استحق «الخلود» بأنه أفصح بهذه العبارة التي ظلت تزحف مع حركة التاريخ، كما يتحرك الحجر في قاع النهر. إنه عبَّر دون مواربة، ودون حياء، عن مبرر أساسي من مبررات الاستعمار الأوروبي، وهو أن الأجناس غير الأوروبية، ال «همج» في زعمهم ليسوا بشراً بمفهومهم للكلمة، ويمكن اعتبارهم غير موجودين، وأن الحيز الذي يشغلونه على سطح الأرض، هو في الحقيقة خالٍ من السكان. ولم يكتفوا بهذا الصلف العرقي، ولكنهم جعلوه قانوناً إلهياً. وأضفوا عليه مبرراً أخلاقياً. قد يكون الإله الذي تذرعوا به «برستنتياً» كما في استراليا، أو «كالفنياً» كما في جنوب أفريقيا، أو «كاثوليكياً» كما في أمريكا اللاتينية، وقد يكون «يهوه» إله اليهود كما في فلسطين».
التناول الثاني في هذه الإطلالة يقف عنده ذلك العدد من المقالات التي كتبها الطيب صالح عن المتنبي وقد عاد فجمعها في كتابه (في صحبة المتنبي ورفاقه). وغيرها من الكتابات.
نافذة
الطيب صالح ...ذكرى متجددة
مجذوب عيدروس
حلت ذكرى رحيل الطيب صالح الثانية وسط أجواء سياسية واجتماعية تظلل الوطن العربي بشئ من القلق والتوتر ورياح التغيير التي هبت في أكثر من مكان .
وقد احتشدت قاعة الصداقة بالخرطوم بمحبي الطيب صالح ، ومن يعرفون قيمته الابداعية ، وما خلقه من صلات بين السودان والآخر .. وقد حملت قصص وروايات الطيب صالح عبق المكان السوداني الى كل مكان .. فهذا الاحتفاء بشخصيات الطيب صالح وعالمه لم يكن حكراً على السودانيين ، ولكنه ظل متاحاً لكل القراء .
ولقد جاء الى الخرطوم أصدقاء أعزاء منهم أ.د.أحمد درويش من مصر ، ود. حميد لحمداني ( المغرب) وأ.د. يوسف بكار ود. حاتم الصكر ( العراق) .. وكل واحد من هؤلاء يمثل علامة من علامات المشهد الثقافي العربيفي اتساع الرؤيا وبهاء العبارة وما تحمله من رؤى معرفية ، وفك لمغاليق اللغة وفي يقيننا أن هذا الحضور العربي الذي تقدمه السيد وزير الثقافة القطري حمد بن عبد العزيز الكواري ، يمثل تحقيقاً لرؤى الطيب حول هوية السودان ، وتمثلاً لما ينادي به بآليات الابداع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.