التقيت الطيب صالح، لأول مرة، بالجزائر العاصمة. كانت وزارة الثقافة و الاعلام الجزائرية قد دعت كاتبنا الكبير إلى ملتقى «الثورة و الأدب «الذي نظم بمناسبة مرور ربع قرن على ثورة نوفمبر 1954 المجيدة. كان ذلك النهار مشمسا،رائق الجو ،بالرغم من أمطار الخريف الغزيرة التي كانت قد هطلت على الجزائر العاصمة و ضواحيها بالأمس. كنا في الثاني من نوفمبر 1979.و كان المرحوم الطيب صالح في أوج عطائه و شهرته. كانت روايته الرائعة «موسم الهجرة إلى الشمال» قد شقت الآفاق وقرأها ما لا يقل عن خمسة آلاف جزائري حسب إحصائيات الشركة الجزائرية للنشر والتوزيع، وهي الشركة الحكومية الوحيدة التي تنشر وتستورد وتبيع الكتب يومها في الجزائر. كنت قد قرأت رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» خمس مرات في طبعتها العربية و ثلاث مرات في طبعتها الفرنسية (و إن لم تعجبني تلك الترجمة وقتها). كان أسلوب الرواية الشعري، ذو المجازات الرائعة قد أخرجني من ضجر أساليب غالبية الروايات العربية المتميزة وقتها بسرد جاف،غارق في الوصف البسيكولوجي الذي تجاوزه الزمن أحيانا بالمقارنة مع ما يكتب في أروبا وأمريكا و اليابان. وكان الطيب صالح قويا في طرحه لموضوع طالما آرقنا، إنه صراع الغرب و الشرق و قساوة الاستعمار الانجليزي في السودان بالخصوص.أعجبت بكل أبطال «الموسم» من مصطفى سعيد إلى ود الريس وبنت مجدوب.كما أعجبت فيما بعد بالزين بطل رواية «عرس الزين « و بضو البيت بطل رواية بندرشاه . كنت في السابعة و العشرين من عمري في نوفمبر 1979 و كان لقائي بالطيب صالح هو لقاء القارئ الشغوف المعجب بكاتبه المفضل.بعد نصف ساعة من جلستنا في كافيتريا فندق الأوراسي، أصبح الطيب صالح في نظري أطيب إنسان ألتقيه بعد أمي ومن يومها صار صديقا حميما.إلتقيته في القاهرة عدة مرات في السنوات 1985،1987،2001،2003 و2005 كما إلتقيته في الجزائر، مرة أخرى سنة 1999 وفي لندن سنة 2002.كان هو هو لم يتغير. الإنسان البشوش، الكريم، الفاضل. قرأ رواياتي وقصصي فأعجبته. نقدني حيث يجب النقد ونصحني كما ينصح الأخ أخاه. كان الطيب صالح سودانيا وحدويا.كانت قصته «دومة ود حامد» المنشورة في مجموعته الموسومة بنفس العنوان أجمل ما كتب في موضوع الوحدة، فدومة ود حامد في نظري هي السودان.هي مقدسة مثل الوطن وبقاؤها سليمة مقدسة وإقامة المشروع الحكومي في نهاية القصة دليل على عمق تحليل روائينا الكبير. المكان المقدس في قلب السودانيين: هو الوطن الكبير. ترجمات الطيب صالح إلى الفرنسية لم تكن موفقة دائما.ذلك أن أسلوبه الشعري الراقي يصعب نقله إلى لغة أخرى.لقد قالت الكاتبة الروسية إلزا تريولي لزوجها الشاعر الفرنسي الكبير لويس أراغون حين صعبت عليه ترجمة بعض قصائد الشاعر الروسي الكبير مياكوفسكي: «ترجمة هذه القصائد مستحيلة فالشعر لا يترجم» .لقد كانت الترجمة الفرنسية الأولى لرواية «موسم الهجرة إلى الشمال» ترجمة ركيكة ضعيفة، الأمرالدي دعا الكاتب التونسي الكبير عبد الوهاب مؤدب إلى إعادة ترجمتها.فأنصف كاتبنا الكبير.كانت صداقة كبيرة تربط الأديبين كما كانت ثقافتهما الموسوعية تميزهما في الشرق و الغرب بالرغم من أن عبد الوهاب مؤدب يكتب باللغة الفرنسية.ترجمة كاتب تونس الكبير اقتربت كثيرا من شعرية نص الطيب صالح دون أن تحرف معانيه.إنها الترجمة المعتمدة اليوم في كل الجامعات التي تدرس اللغة الفرنسية وتهتم بالأدب العربي. ترجمة «عرس الزين « كانت صعوبتها تكمن في اللهجة الدارجة المحلية التي وظفها الطيب صالح في روايته.فكثير من المعاني غابت عن المترجمين.نفس الأمر حصل في ترجمة رواية «بندرشاه» «ضو البيت». غير أن الموضوع العام لهذه الرواية الأخيرة كان أكثر ضبطا لدى المترجم.