الوقت صباح الجمعة.. الشمس تضع بصمتها على النيل الممتد الذي يشبه «اللاوي» المحيط بخصر تلك الأبنوسية الفارعة القوام التي تغني للحياة وللقادمين من رحم وطن تنبت ارضه الخير ويصنع اهله المعجزات، وهم يتدثرون بلباس البساطة، ويكسو معدنهم الأغلى من الذهب رونق آخر.. المكان النيل المدينة او المدينة النيل بالتحديد.. اكثر الجلوس على شاطئ النهر او بحر ابيض.. رائحة الطين والجروف تعبق كل الامكنة.. واسراب الطيور تمشي الهوينى على مهل.. الهابطات من المعدية او سمها «الرفاس» «الكمل اولاد وبنات الناس»، حيث تعود ذاكرة اهل كوستي لحدث فقدت فيه المدينة زينة شبانها داخل نفس النهر الذي يهبهم ايضا كل خيراته وكأنه يسدد دينا قد سلف.. الا ان رائحة أخرى تفوق تلك الروائح.. انها رائحة الشواء لحمام النيل السمك في كوستي.. رائحة تنبعث من خلف تلك «الصيجان» ولهبها المتصاعد يزيد من الرغبة في تناول وجبة سمك مشوي او محمر في جلسة ما «منظور مثيلها». وقد ينبعث هذا النص من الاستريو المعلق في مدخل اي من الرواكيب المنصوبة هناك، ولكنه يتجسد حقيقة من احساس كل الجالسين حول ترابيز قد تبدو متواضعة جدا.. ولكن تواضعها هو السبب الاساسي في الاستعداد والقابلية التي تدفع بالكل للذهاب الى هناك يوم الجمعة.. وهو يوم اهل المدينة الذين يذهبون في جماعات من الشباب يتحلقون حول التربيزة والصاج، واللهب المتصاعدة والعصا التي يحرك بها الطباخ الماهر اكوام السمك، وسيمفونية صوتها تردد نغمة اخرى، الا ان اعلى الاصوات هناك هو صوت المعلم الذي يقف في وسط الدائرة يناغم الزبائن ويحرض العمال على الخدمة «جيب شطة هنا ودي للشباب ديلك زيادة بصل»، وهكذا تمتد الوصايا العشر داخل الراكوبة الضيقة المتسعة لقلوب الناس، وهم يتناولون السمك من حيث المنبع، فرواكيب السمك في كوستي تشكل احد الاماكن المميزة في المدينة التي يقصدها كل القادمين، بل أن كثيرين من العابرين في طريقهم الى كردفان الغرة يتوقفون عند تلك المحطة من اجل تناول الاسماك، وتبدو الصورة هناك اقرب لصورة أماكن بيع الاسماك في الموردة، فالنيل يوحد تفاصيل الحياة في كل الامكنة التي تحيط به. وايضا من المناظر المألوفة ان تجد عربات المنظمات الدولية بعلامات الاممالمتحدة وبقية المنظمات الذين يأتون اليها. وفي نفس هذا المكان جلست وزيرة الصحة السابقة تابيتا بطرس، وتناولت وجبتها من السمك، حيث مازالت صورتها تزين الراكوبة مع غيرها من الصور التي يعلقها اصحاب الرواكيب الذين يتصفون بروح استمدوها من المدينة التي تستقبل القادمين اليها بحالة من الفرايحية في كل الاحوال.. ولكنها تزداد حينما يتعلق الامر بضرورة استدامة التجارة التي تتطلب روحا من المرح مع القادم لاول مرة، ليعيد الكرة مرات ومرات، وليس التعامل فقط هو الذي يعود بالناس، وانما الطعم الذي يميز أسماكهم وتوابلها التي يضيفونها لها، وطريقة التجهيز نفسها التي تتم بعيدا عن أعين الزبائن، ولكنها قريبة منهم عبر انتقال الرائحة التي تزيد من المطالب، غير أن الاسعار نفسها هناك في متناول أيدي الجميع، والمعادلة تقول إن السمك من المنتج الى المستهلك او من المركب الى «الصاج» مباشرة ومنه الى الزبون. «بشرى القون» أحد العاملين هناك وحارس مرمى شهد له استاد المدينة القريب من الرواكيب.. ترك الكرة من اجل اصطياد الاسماك والزبائن معا في محله الذي يؤمه الكثيرون. والمكان لم يبق رهين اسماكه فقط، فسرعان ما دخلت وظائف اخرى يمارسها عدد من الشباب وهم يحملون ادوات عملهم في غسيل العربات التي تقف هناك، تغسل عنها وعثاء السفر كما يغسل المعلم يونس عن الجميع وعثاء الجوع عبر اسماكه باسعارها المنخفضة، حيث لا يتجاوز طلب السمك الواحد هناك خمسة جنيهات بحسب قوله، كما أن الصينية التي تقدم فيها هذه الأسماك تزيد من البركة كما يقول هو، او كما يقول الجميع في محطة السمك بالقرب من البحر برواكيبها الممتدة في مساحات واسعة، في زمن محصور فقط من الساعة الثامنة صباحا وحتى الواحدة.. فقط تلك هي مواعيد السمك الفريش قبل أن تعود المراكب في رحلة عودتها الى البحر مرة أخرى.