تنطوي محاولات الاستفادة المثلى من النفط في السودان على مصاعب جمة، لوقوع معظم مناطق الانتاج الحالية والمرتقبة في ساحات للصراع، وبينما هدد باقان أموم وزير السلام في حكومة الجنوب منتصف الشهر الجاري بوقف ضخ النفط عبر انبوب الشمال مما يحرم الشمال على الأقل من عائدات نقله، فإن الجنوب ذاته مهدد بالحرمان من هذه الثروة التي باتت في كف عفريت بسبب النزاعات الجنوبية الجنوبية، وآخرها اشتباكات جرت في ثلاث ولايات منتجة للنفط. ويبقى السلام هو الكلمة السحرية الجوهرية في كل شأننا السوداني، شمالا وجنوبا، وهو يستوجب جهدا جماعيا قوميا مخلصا، بالنظر إلى أن معظم المشكلات القائمة يبرز فيها بوضوح غياب عنصر العمل الجماعي القومي.. ومن التحديات البارزة مسألة الحفاظ على الثروات من نيران النزاعات.. وذلك على الرغم من ضبابية الموقف بهذا الصدد، والمدى الذي يمكن فيه الإفادة من النفط الموجود معظمه في الجنوب، وفي المناطق التي تخضع لعمليات استكشاف في مواقع عدة بالشمال بما فيها المتاخمة للجنوب وتمثل ساحات أخرى للصراع، ومع ذلك فإن تجارب في أنجولا ونيجيريا خلال القرن الماضي أفادت بإمكانية التنقيب عن النفط وسط نيران الحرب وقذائفها المتقاطعة، لكن الأمر لم يكن يسيرا في كل الأحوال، ولا يتفق مع وضع يفترض أن تتوفر فيه امدادات مأمونة ومنتظمة للمستهلكين في الداخل وللأسواق الخارجية. وأخيراً كانت ثلاث من الولايات المنتجة للنفط في الجنوب مسرحاً لصراعات دامية، ففي الأسبوع الثالث من مارس الحالي سقط حوالي «70» قتيلا في ولايتي الوحدة وأعالي النيل، في معارك بين الجيش الشعبي ومليشيات محلية، بينما سقط قتلى آخرون في ولاية جونقلي التي تستعد شركة توتال الفرنسية لمباشرة أعمال للتنقيب عن النفط فيها، وعلى الرغم من أن انتاج النفط لم يتأثر بهذه المعارك، إلا أن الحاجة تبقى ملحة للوصول إلى الاستقرار بطريقة جادة، فلو سلمنا جدلاً أن الأمور بين الشمال والدولة الوليدة في الجنوب أصبحت لبنا على عسل، فإن الوضع في الجنوب ذاته، وبالذات في الولايات الأكثر انتاجا، قد لا يتيح الاستفادة بصورة كاملة من هذه الثروات خاصة مع اقتراب الجنوب من إعلان الدولة في التاسع من يوليو المقبل، وما تراه قوى جنوبية، ومنها مليشيات مسلحة أن توجهات الحركة الشعبية للانفراد بالسلطة أمر لا يمكن السكوت عليه، حيث أن ذلك يعني أيضا الاستحواذ على الثروات وفقا لمنطق الصراع الجنوبي الجنوبي، وعلى ضوء الحقيقة القائلة إن المليشيات المناوئة للحركة الشعبية تتمركز في الولايات الغنية بالنفط. وتجيء هذه الاشتباكات عقب الاجتماع الرئاسي في 17 مارس وبعد اتهامات باقان أموم للشمال بدعم مليشيات في الجنوب، وفقا لوثائق قال إن الحركة الشعبية حصلت عليها، وأعلن يومها عن وقف المحادثات الخاصة بقضايا ما بعد الاستفتاء، كما هدد بشحن النفط عبر منافذ أخرى بديلة عن أنبوب الشمال، وقد أفلح الاجتماع الرئاسي في تجاوز المشكلة، على الأقل من ناحية الاتفاق على استئناف المحادثات حول قضايا ما بعد الاستفتاء، ومن بينها وضع النفط. وهناك محاولات جمة لجعل اجراءات الانفصال الرسمي سلسلة ونظيفة، ونشير هنا إلى اللجنة التي شكلها الرئيس البشير «لاختيار شركة للتدقيق في حجم الإنتاج من أجل دحض الاتهامات التي تتحدث عن أرقام غير حقيقية حول الانتاج».. وكانت مجموعة قلوبال وتنس قد ذكرت في عام 2009 أن أرقام الإنتاج التي تصدرها الشركة الصينية المهيمنة على عمليات الإنتاج تتناقض مع تلك التي تصدرها الحكومة السودانية.. وقد طفت مسألة أرقام الإنتاج إلى السطح مجددا عقب الاستفتاء الذي أسفر عن التصويت لصالح الانفصال.. وقالت قلوبال ويتنس أخيراً إنها سمعت أن السودان قد حدد قائمة بالشركات المدققة للاختيار من بينها، إلا أنها ذكرت أن هذه الخطوة جاءت متأخرة. وبالنسبة لنفط الشمال الذي تتحدث تقارير حكومية على أنه مشجع فهو يوجد بصفة أساسية في مناطق لا تخلو أيضا من صراعات، وفي مواقع ينذر الوضع فيها بمشكلات مستقبلية، على الأقل، اذا تواصل النهج الأحادي الحالي في التعامل مع المشكلات، دون اشراك الجميع في سبل تسويتها. وتفيد التقارير الرسمية بأن الإنتاج النفطي للسودان «في الجنوب والشمال» حتى شهر فبراير الماضي بلغ حوالي «472» ألف برميل يومياً، ينتج منها الشمال «115» ألف برميل يوميا والباقي ينتجه الجنوب بنسبة أكثر من «75%»، وتقول ذات تلك التقارير إنه بنهاية العام الجاري سيزيد إنتاج نفط الشمال من نحو «20» ألف برميل يومياً ليصل إلى «135» ألف برميل يوميا.. وتقول أيضا إن معظم ولايات الشمال تبشر بوجود احتياطات من النفط، وبينها مناطق ذات إنتاج تجاري، وهنا غالبا ما تتحدث التقارير الرسمية بلغة المربعات، وهي لغة لا يفهما كل الناس إلا المختصين في الشأن النفطي، وعلى سبيل المثال فإن المواقع المرتقبة للانتاج التجاري توجد في مربعات «2، 4، 6»، وتقع في جنوب كردفان وجنوب دارفور وفي مناطق متاخمة للجنوب، بل وتمتد قليلا في عمق الجنوب، وكل هذه مناطق نزاعات بما فيها أبيي وجنوب جبال النوبة المسكونة بهواجس الحرب حتى الآن. وتظل الحاجة ملحة لرؤية تنمية حقيقية في مناطق الإنتاج، واستيعاب أكثر لأبناء تلك المناطق في المشروعات النفطية والمرافق الأخرى، فضلاً عن إقامة مراكز للتدريب في تلك المواقع تفي باحتياجات المنشآت القائمة من الكوادر المحلية المؤهلة. ويبقى من المهم أن ينصرف قدر كبير من الجهود إلى التركيز على تطوير واستثمار مختلف الإمكانيات خاصة تلك التي توفرها الزراعة التي يمتلك السودان ميزات نسبية فيها، إلى جانب كافة مقومات النهوض بها، فعلى سبيل المثال فإن مسؤولين يتحدثون بحماس عن انتاج كبير من القمح، ولا يعرف على وجه التحديد ما إذا كنا بصدد رؤية ارتفاع نسبة الاكتفاء الذاتي الحالية من القمح من 16 بالمائة إلى 40 بالمائة، كما تأمل الجهات المعنية في وزارة الزراعة، بينما يقول مهتمون بالشأن الزراعي إن مشروع الجزيرة ضرع السوداني الذي احتضن البلاد طوال عقود عديدة، ليس في الوضع الأمثل للوفاء بالطموحات الزراعية التي يتحدث عنها المسؤولون. وبالطبع فإن كل التدابير تصبح قاصرة إذا لم يتم التوصل إلى تسوية وفقا لمنظور قومي لمشكلات السودان كافة، لكن المتحقق على هذا الصعيد، حتى الآن، هو دون الآمال المرجوة، إذ يبدو من سياق ما تسرب من محادثات بين حزب الأمة والمؤتمر الوطني، أن مسألة التوصل إلى اتفاق يتيح مشاركة كل القوى السياسية وصولا إلى مؤتمر قومي دستوري، أمر بعيد المنال، فالمؤتمر الوطني يتخوف من مسائل عدة إذا تسربت السلطة من بين يديه وفقا للصيغة القومية المفترضة، ومن بينها أن تقوم حكومة قومية جديدة بإعادة النظر في الموقف من المحكمة الجنائية الدولية، ولهذا فهو يتشبث كثيراً بأن يكون على رأس الحكم ممسكاً بجميع الملفات التي قد تنتقل إلى آخرين في حال تكوين حكومة قومية. ويبدو من السابق لأوانه تصور الوصول إلى حالة مستقرة يكون فيها النفط لاعبا أساسيا في الشأن الاقتصادي، طالما بقيت كل الأمور رهن التقلبات السياسية والصراعات الحالية والمرتقبة في أكثر من جهة بالسودان، وطالما ظل الانفراد بالسلطة هو الهم الأكبر، رغم حالة الغليان المستمرة حولنا التي أفرزت حقائق لا يمكن تجاوزها أو القفز عليها.